من التبعية إلى الاكتفاء: ملحمة اليمن في تحرير سوق الخضار والفواكه من الإغراق الخارجي


تقرير | يحيى الربيعي

شهدت البنية الاقتصادية في اليمن تحولاً جذرياً منذ العام 2014، حيث انتقلت الدولة من حالة التبعية الكاملة للمستوردات والارتهان للإملاءات الخارجية في رسم السياسات التنموية، إلى تبني استراتيجية “المقاومة الاقتصادية” والسيادة الغذائية. إذ شكلت ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر 2014 نقطة الانطلاق الجوهرية نحو استعادة مكانة القطاع الزراعي كركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، وهو ما تجلى بوضوح في إطلاق “الثورة الزراعية” التي استهدفت تحقيق الاكتفاء الذاتي كهدف استراتيجي وسيادي. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2020 و2025 دخلت هذه الثورة مرحلة التنفيذ المؤسسي والمجتمعي المكثف، حيث تم توجيه الموارد والقدرات نحو تعظيم الإنتاج المحلي، لا سيما في قطاعي الخضروات والفواكه، اللذين يمثلان عماد الأمن الغذائي اليومي للمواطن اليمني.

الأسس المعيارية والمبادرات المجتمعية

تعتمد حكومة التغيير والبناء ممثلة بوزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية على حزمة من التعريفات والمعايير الإحصائية التي تضمن دقة التخطيط ورسم السياسات الإنتاجية والتسويقية. ويعد الحائز الزراعي هو المسؤول الفني والاقتصادي الأول عن تشغيل الحيازة، سواء كانت نباتية أو حيوانية، وتتوزع الأراضي الزراعية بين المساحة الكلية والمساحة الصالحة للزراعة، وصولاً إلى المساحة المحصولية التي تعبر عن مجموع مساحات المحاصيل المزروعة خلال العام الزراعي.

وبالتالي، لم تكن النهضة الزراعية نتاج عمل عشوائي، بل استندت إلى حوكمة دقيقة للبنية التنظيمية وتحقيق التكامل بين الجهد الشعبي والرسمي. وقد برزت اللجنة الزراعية والسمكية العليا كجهة إشرافية وتنسيقية كبرى، تعمل بالتوازي مع وزارة الزراعة والمؤسسات التنموية مثل مؤسسة بنيان التنموية والاتحاد التعاوني الزراعي.

كما تم تعزيز دور المؤسسات الوطنية مثل المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب والشركة العامة لإنتاج بذور البطاطس، لضمان توفير مدخلات الإنتاج محلياً. كما لعبت مؤسسة بنيان التنموية دوراً محورياً في تأهيل “فرسان التنمية” والمتطوعين الباحثين الذين نفذوا عشرات الدراسات الميدانية لتقييم سلاسل القيمة وتحفيز المجتمعات المحلية على تنفيذ المبادرات الذاتية. وتجاوزت قيمة المبادرات المجتمعية المنفذة في مجالات الزراعة والري والطرق حتى عام 2023 أكثر من 60 مليار ريال يمني، ما يعكس الشراكة الحقيقية بين الحكومة والمجتمع في كسر حلقة الفقر وتحفيز الإنتاج.

قطاع الخضروات والوصول إلى الوفرة

في ملحمةٍ زراعيةٍ تخطت لغة الأرقام لتصبح برهاناً ساطعاً على إرادة الصمود، كشفت الجداول الإحصائية الرسمية عن معركةٍ صامتة يخوضها المزارع اليمني في مواجهة الحصار الصهيو-أمريكي، حيث حقق قطاع الخضروات قفزاتٍ إنتاجية كبرى حولت الأرض إلى خنادق متقدمة لتأمين الغذاء وتثبيت السيادة، إذ تشير البيانات إلى أن الإنتاج المحلي اندفع من 888,610 أطنان في عام 2019 ليصل إلى ذروةٍ لافتة بلغت 1,115,829 طناً في عام 2023، مسجلاً زيادةً نوعية تجاوزت الـ 25% خلال خمس سنوات من المواجهة الاقتصادية الشرسة.

ويحتل قطاع الخضروات المرتبة الخامسة من حيث المساحة المحصولية بنسبة 6.2%، ولكن مساهمته في الأمن الغذائي والقيمة الغذائية اليومية تضعه في مقدمة الأولويات. خلال الفترة 2020-2025 شهد هذا القطاع تحولات كبرى في أنماط الإنتاج والتسويق، لا سيما مع إدخال نظام الزراعة التعاقدية ومنع الاستيراد الممنهج.

هذا المسار التصاعدي لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتاجاً للسياسات التي انتهجتها وزارة الزراعة والري في صنعاء، والتي ركزت بوضوح على تحطيم قيود التبعية للخارج عبر برامج التوسع الزراعي ودعم المدخلات، وهو ما ترجمه الارتفاع المطرد في المساحات المزروعة التي توسعت من 69,956 هكتاراً في عام 2019 لتستقر عند 75,801 هكتار في عام 2023، ليعكس هذا النمو إصراراً وطنياً على استعادة السيطرة على السوق المحلية التي حاول السوق العالمي إغراقها بمنتجاته لضرب القوة الإنتاجية للإنسان اليمني وإبقائه رهينةً لسياسات التجويع والارتهان.

وعلى الرغم من محاولات التضييق المستمرة، فقد أثبتت إحصائيات عام 2021 قدرةً فائقة على اختراق المستحيل حين قفز الإنتاج إلى 1,159,156 طناً، وهي القفزة التي تؤكد فعالية قرارات حماية المنتج الوطني من المنافسة الخارجية غير العادلة، حيث مثلت هذه السياسات الحمائية درعاً اقتصادياً حصيناً للمزارعين، ما شجعهم على الاستمرار في زراعة وتطوير أصناف الخضروات المختلفة، محققين بذلك توازناً استراتيجياً يُسقط رهانات الأعداء على كسر الجبهة الداخلية عبر سلاح الغذاء، ويجعل من كل ثمرة يمنية رداً عملياً على الغطرسة الأمريكية التي تسعى للتحكم في لقمة عيش الشعوب المقاومة.

هذا التطور في بنية الإنتاج الزراعي، والذي يربط بين اتساع الرقعة الخضراء وزيادة الكفاءة الإنتاجية، يضع اليمن اليوم على أعتاب مرحلة من الاكتفاء الذاتي الذي يتجاوز مفهوم الأمن الغذائي التقليدي إلى “السيادة الغذائية” المطلقة. وبناءً على هذه المعطيات الموثقة فإن النجاح في رفع الإنتاج بأكثر من ربع مليون طن في غضون سنوات قليلة يعد بمثابة إعلان استقلال اقتصادي يُجهض مؤامرات الإخضاع، ويؤكد أن الرهان على الأرض والإنسان اليمني هو الرهان الرابح في معركة الكرامة ضد كل قوى الاستكبار العالمي.

وبلغة الأرقام، تتصدر محاصيل البطاطس والبصل والطماطم قائمة الخضروات الأكثر أهمية. وتُعَد محافظة ذمار “سلة الخضروات” الأولى، حيث تساهم بنحو 202,739 طناً من إجمالي الإنتاج، تليها محافظة تعز والحديدة وإب.

ويمثل البطاطس نحو 23.6% من إجمالي مساحة الخضروات، وبلغ الإنتاج في عام 2023 نحو 320,677 طناً. وتعَد ذمار المنتِج الأول بـ 137,237 طناً، تليها إب بـ 96,844 طناً. ومن أبرز الإنجازات في هذا المجال تحقيقُ الاكتفاء الذاتي من بذور البطاطس بحلول عام 2024، لكسر الاحتكار الخارجي الذي كان يكلف الدولة مبالغ طائلة من العملة الصعبة.

ويغطي البصل مساحة 16,387 هكتاراً بإنتاج يصل إلى 249,387 طناً. وتعد محافظة تعز المنتج الرئيسي بإنتاج 134,182 طناً، تليها حضرموت وصنعاء. ويتميز البصل اليمني بقدرة تخزينية وجودة عالية تجعله محصولاً نقدياً مهماً في السوق المحلية وأسواق التصدير الإقليمية.

وبلغ إنتاج الطماطم 160,504 أطنان في عام 2023. وتتصدر ذمار وصنعاء والجوف قائمة المحافظات المنتجة. وتعمل الدولة حالياً على حل مشاكل الاختناقات التسويقية خلال ذروة الموسم من خلال تشجيع التصنيع الزراعي (معجون الطماطم) لضمان استقرار الأسعار للمزارع والمستهلك.

قطاع الفواكه والقيمة المضافة

تتجاوز لغة الأرقام في قطاع الفاكهة اليمني مجرد مؤشرات الإنتاج لتتحول إلى وثيقة إدانة لسياسات التبعية التي حاول التحالف الصهيو-أمريكي فرضها لعقود، حيث كشفت بيانات العام 2023 عن طفرة نوعية وضعت الفواكه على رأس قائمة محاور معركة السيادة الاقتصادية، إذ تستقطع الفواكه اليوم 7.9% من إجمالي المساحة المحصولية في الجمهورية، بمساحة بلغت 96 ألفاً و206 هكتارات، أثمرت إنتاجاً ضخماً تجاوز المليون و65 ألف طن، في مشهد يبرز نجاح استراتيجية “الإحلال محل المستورد” التي تتبناها الدولة لكسر حلقات الحصار الاقتصادي الجائر.

وفي صدارة هذه الملحمة الإنتاجية، تتربع فاكهة المانجو كملكة متوجة للاقتصاد الزراعي بحصة بلغت 27.2% من مساحة الفواكه، حيث تحول سهل تهامة في محافظة الحديدة إلى ساحة مواجهة كبرى أثمرت وحدها 189.698 طناً من مختلف الأصناف. وبينما يمتلك اليمن أكثر من 20 صنفاً عالمياً مثل “التيمور” و”قلب الثور”، فإن الثورة الزراعية لم تكتفِ بزيادة الكم بل ارتقت بمعايير الجودة والتغليف، لتنتقل المانجو اليمنية من مجرد محصول استهلاكي إلى سلاح اقتصادي ينافس في الأسواق الخارجية، معيدةً الاعتبار للأرض التي حاول الأعداء تجريف هويتها الإنتاجية.

وعلى ذات المسار من كسر الارتهان، يبرز العنب كجوهرة للمناطق الجبلية وصمام أمان للسيادة الغذائية، حيث تستحوذ محافظة صنعاء على 80% من الإنتاج الوطني الذي بلغ إجمالاً 153.107 أطنان في عام 2023، متبوعة بزخم إنتاجي في صعدة وعمران، وما كان لهذا الإنجاز أن يكتمل لولا القرار الاستراتيجي الشجاع بمنع استيراد الزبيب الخارجي، وهي الخطوة التي يراها المحللون “ضربة معلم” في فضح ألاعيب السياسات “الصهيو-أمريكية” التي كانت تستهدف ضرب المزارع اليمني في عقر داره، ما أدى إلى تحقيق اكتفاء ذاتي كامل من الزبيب بنسبة 100%، وتحويل مزارع العنب إلى قلاع صمود لا تقبل التشكيك في قدرتها على التحرر من الوصاية الأجنبية.

وبذات الديناميكية، امتدت سياسات الحظر لتشمل التفاح الخارجي، ما منح قبلة الحياة للمناطق الجبلية الباردة لترفع إنتاجها إلى 31.445 طناً، في حين سجل الرمان -لا سيما في محافظة صعدة- حضوراً قوياً بإنتاج بلغ 46.446 طناً، وبالتوازي مع ذلك، شهد قطاع التمور والموز والحمضيات نمواً مطّرداً يعكس عمق التوجه نحو تطهير السوق المحلية من المنتجات التي كانت تُستخدم كأدوات للضغط السياسي، فكل هكتار من النخيل أو البرتقال اليوم يمثل رداً عملياً على محاولات تركيع الشعب اليمني عبر سلاح الغذاء، مؤكداً أن الأرض اليمنية باتت اليوم تزرع استقلالاً قبل أن تزرع ثماراً.

الزراعة التعاقدية ثورة في نظام التسويق والإنتاج

تعد “الزراعة التعاقدية” -التي انطلقت في أغسطس 2020- حجر الزاوية في السياسة الزراعية الحالية. تهدف هذه الآلية إلى ربط المنتِج (المزارع) بالمستهلك أو المصنع عبر عقود شراء مسبقة تضمن للمزارع سعراً عادلاً وتوفر للسوق منتجاً وطنياً بجودة عالية.

وأدت هذه المنهجية إلى نتائج ملموسة في خفض فاتورة الاستيراد لعدة محاصيل، فعلى سبيل المثال ارتفع إنتاج محصول الثوم بمعدل 50% ليصل إلى 5,000 طن، ما أدى لتقليص الاستيراد بنسبة 100%، وحقق محصول الزبيب اكتفاءً ذاتياً بنسبة 100%، يليه محصول البرتقال في تقليص فاتورة الاستيراد بنسبة 90%، فيما يحظى محصول التمور بميزة التعاقد على شراء 2,500 طن من الإنتاج المحلي عبر الوكلاء.  علاوة على ذلك، تم تأسيس ثمانِ شركات متخصصة في مجالات: الحبوب، البقوليات، الدواجن، واللحوم، لإدارة هذه التعاقدات بالشراكة مع الجمعيات التعاونية الزراعية.

استراتيجية حماية المنتج المحلي ومنع الاستيراد

تُرجمت التوجهات الرسمية نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى قرارات حازمة قضت بحظر قائمة واسعة من المحاصيل والمنتجات المستوردة حتى نهاية العام 2024، حيث اتخذت وزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية قرارات شجاعة لحماية الاقتصاد الوطني، شملت حظر استيراد 27 صنفاً من المحاصيل والمنتجات الزراعية والحيوانية، في خطوة يصفها خبراء اقتصاديون بأنها طلقة الرحمة على التبعية للخارج، ومحاولة جادة لكسر حصار “التحالف الصهيو-أمريكي” الذي سعى لسنوات طوال إلى تحويل السوق اليمنية إلى سلة مهملات لمنتجاته الفائضة.

وفي هذا السياق، شهدت الأسواق المحلية تحولاً جذرياً -عقب قرار حظر استيراد التفاح الخارجي والزبيب- لحماية المنتج الوطني الذي يتمتع بجودة تتفوق على نظيراتها المستوردة، وامتدت هذه الإجراءات لتشمل الثوم المطحون والبصل المجفف والجوافة والتين والبسباس الأحمر، وصولاً إلى الخضروات المجمدة التي كانت تستنزف العملة الصعبة وتضرب المزارع اليمني في عمق إنتاجه، حيث تشير التقارير الميدانية إلى أن هذه الخطوات دفعت بالمزارعين نحو استصلاح مساحات شاسعة كانت مهملة، ما أعاد الروح إلى الأودية والمزارع اليمنية التي كانت تئن تحت وطأة الإغراق المتعمد.

وبالتوازي مع هذه النهضة في قطاع الخضروات والفواكه، فرضت الدولة واقعاً جديداً في قطاع الحبوب والمحاصيل الاستراتيجية، فكان قرار منع استيراد الدخن والذرة الرفيعة واللوبيا “الدجرة” بمثابة إعلان رسمي لبدء “ثورة الحبوب”، وهي السياسة التي تهدف إلى تأمين لقمة العيش من التراب الوطني بعيداً عن تقلبات البورصات العالمية والابتزاز السياسي الذي تمارسه القوى الاستعمارية عبر سلاح الغذاء، كما لم يتوقف الأمر عند الغذاء الأساسي بل شمل الكماليات والمنتجات التحويلية مثل شرائح البطاطس “الشبس” والورود والزهور الطبيعية، في إشارة واضحة إلى إعادة ترتيب أولويات الإنفاق القومي وتوجيهه نحو دعم البنية التحتية للإنتاج المحلي.

وعلى الضفة الأخرى من هذا المسار التصحيحي، جاء حظر المنتجات الحيوانية المستوردة ليعزز من قدرة المربين المحليين على المنافسة، حيث شملت القائمة نقانق ومسحب الدجاج والكبدة المجمدة واللحوم المقطعة بدون عظم، وهي منتجات كانت تغرق الأسواق وتثير تساؤلات حول معايير سلامتها وجودتها مقارنة بالذبح المحلي الطازج، ومن خلال هذا المنع الصارم تهدف السلطات في صنعاء إلى تحفيز قطاع الإنتاج الحيواني وصناعة الدواجن، ما يخلق فرص عمل واسعة ويقلص الفجوة الغذائية التي حاول “الكيان الإسرائيلي” وحلفاؤه توسيعها عبر سياسات اقتصادية تدميرية استهدفت إضعاف الإنسان اليمني وإخضاعه.

قرارات حماية المزارع اليمني من المنافسة غير العادلة للمنتجات المستوردة المدعومة في بلدانها، والتي مرت بإجراءات “الإيقاف التدريجي” لضمان تغطية السوق من الإنتاج المحلي، كشفت عن إرادة سياسية صلبة ترفض الرضوخ للإملاءات الخارجية، وتؤمن بأن الطريق نحو الحرية الكاملة يبدأ من “المحراث”، فكل صنف تم حظره يمثل لبنة في جدار الصمود الاقتصادي، وهو ما يضع اليمن على عتبة مرحلة جديدة من الاعتماد على الذات، تفشل معها رهانات الأعداء في تجويع الشعب أو تركيعه عبر الحصار، وتثبت أن السيادة لا تتجزأ، وأن رغيف الخبز المحرر من التبعية هو أقوى سلاح في مواجهة الغطرسة الأمريكية.

 

 

موقع انصار الله.