التعليم في اليمن تحت حكم عفاش.. ضحية اختراق استخباراتي أمريكي وفساد بـ60 مليار دولار


*تقرير

بين عامي 1990 و2009، غرق اليمن في بحر من الفساد المنهجي تحت حكم الهالك علي عبدالله صالح ونظامه، الذي تعامل مع مستقبل الأطفال كرقم يمكن تجاوزه بلا رادع، فيما الأموال الطائلة التي كان من المفترض أن تبني مدارس ومختبرات ومكتبات ذهبت إلى جيوب فاسدة. اليمنيون دفعوا الثمن: أجيال تربّت على الإهمال والجهل، في بيئة تعليمية منهارة منذ جذورها.

تقارير اليونسكو والبنك الدولي واليونيسف تقدم صورة صادمة: في 2008، كان أكثر من نصف البالغين أميين، و1.6 مليون طفل خارج المدارس بين سن 6 و14 عامًا، ليس بسبب تقصيرهم، بل لأن المدارس كانت بعيدة أو غير مؤهلة، والفصول مكتظة حد الاختناق. كل رقم يعكس سياسة نظام رأى التعليم عبئًا، والطفل مجرد رقم، والمال الوطني سلعة يمكن نهبها بلا حساب.

انهيار التعليم.. فشل ممنهج بلا رقيب

في اليمن، تحت الحكم العفاشي، لم يكن الفساد مجرد تجاوز قانوني، بل سياسة دولة. المعلم الواحد كان مضطرًا لتعليم ما بين 50 و100 طالب، في فصول مكتظة بلا تهوية أو تجهيزات، و47٪ من المدارس تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير المهنية. المختبرات والمكتبات والمرافق الصحية كانت نادرة، والمياه النظيفة والساحات المهيأة للعب الطلابية شبه معدومة. إن الأرقام التي تقدمها اليونسكو والبنك الدولي ليست مجرد إحصاءات، بل شهادة حية على عقلية نظام يرفض الاستثمار في المستقبل ويعامل التعليم كمجرد بند ثانوي في الميزانية.

الأرقام توضح حجم الإهمال: ميزانية التعليم لم تتجاوز 4–5٪ من الموازنة العامة، فيما الملايين بلا تعليم. الأطفال الذين يفترض أن يكونوا مستقبل اليمن أصبحوا ضحايا فشل ممنهج، وفجوة المعرفة بين اليمن والدول المجاورة اتسعت بشكل كارثي. النظام لم يسرق فقط المال، بل سرق الوقت والفرص.

حتى التدريب والتطوير المهني للمعلمين كان شبه معدوم. المعلمون لم يحصلوا على أي دعم، وفقدوا القدرة على تقديم تعليم فعّال. البيئة التعليمية المتهالكة أصبحت مرآة لعقلية النظام: عشوائية، فاسدة، ومُهملة، ولا مكان فيها للرؤية أو التخطيط المستقبلي.

أرقام ونهب مكشوف

ووفقًا لتقرير لجنة خبراء العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي، فقد قُدِّرت الأموال العامة المنهوبة خلال فترة حكم نظام علي عبدالله صالح بنحو 60 مليار دولار، وهو مبلغ كان كفيلًا بتغيير وجه التعليم في اليمن بالكامل، لولا تحوله إلى ثروات خاصة بيد شبكة فساد منظمة.

وبناءً على تقديرات تحليلية تقريبية، وبمتوسط تكلفة تُقدَّر بنحو مليون دولار للمدرسة النموذجية الواحدة، كان بالإمكان بناء ما يقارب 60 ألف مدرسة حديثة، كل منها مجهز بمختبر علوم، مختبر حاسوب، مكتبة مركزية، مرافق صحية، وساحة لعب، لتستوعب ما بين 18 و24 مليون طالب. لكن النظام اختار النهب والفساد على الاستثمار في المستقبل.

إلى جانب البنية التحتية، كان بالإمكان توظيف ما بين 720 إلى 960 ألف معلم لتغطية جميع الفصول الدراسية وتقديم تعليم فعّال. المعلم الواحد الذي يتحمل أعباء 50–100 طالب لم يكن مجرد فشل إداري، بل جريمة تعليمية بحق ملايين الأطفال. النظام لم يسرق المال فقط، بل سرق مستقبل اليمنيين.

الأرقام المتعلقة بالطلاب خارج المدارس تكشف الحقيقة الصادمة: أكثر من 1.6 مليون طفل بلا تعليم بين سن 6 و14 عامًا. المدارس إن وجدت كانت بعيدة، والفصول مكتظة، والبيئة التعليمية غير صالحة. هذه الإحصائيات لا تشير فقط إلى فشل التعليم، بل إلى جريمة منظمة ضد مستقبل الأجيال.

حتى التقارير الدولية التي تحاول تقديم صورة حيادية لا تستطيع إنكار حجم الكارثة: اليمن كان الأكثر تأخرًا في معدل محو الأمية بين الدول العربية، فيما كانت الأموال المنهوبة كافية لسد كل هذه الفجوات، وتحويل اليمن إلى نموذج إقليمي في التعليم لو أُديرت بحكمة.

الآثار الاجتماعية والمستقبل الضائع

النتيجة لم تكن مجرد أرقام على ورق، بل جيل كامل تربى على الفقر والجهل. الأطفال الذين خرجوا من المدارس أو عاشوا في بيئة تعليمية متدهورة أصبحوا غير قادرين على المنافسة، بينما المجتمع ككل يعاني من بطالة مرتفعة وضعف الإنتاجية. التعليم، الذي يُفترض أن يكون أداة للنهوض بالوطن، تحول إلى سبب لتفاقم الفقر والفشل المؤسسي.

الفجوة المعرفية بين اليمن والدول المجاورة اتسعت بشكل درامي، مما يضع اليمن في موقع الضعف السياسي والاقتصادي والاجتماعي. غياب التعليم الفعّال يعني مجتمعًا أكثر هشاشة أمام الاستغلال والفوضى، وجيلًا أقل قدرة على مواجهة التحديات الوطنية.

الفساد التعليمي ترك إرثًا طويل الأمد: الجهل أصبح سلاحًا للنظام، والفقر أداة للسيطرة، بينما أجيال اليمنيين بلا فرصة للتقدم. هذا الإرث لا يقتصر على خسارة الأموال، بل يشمل تدمير الزمن والمعرفة والفرص التي كان يمكن أن تصنع مستقبلًا مختلفًا للبلاد.

الاختراق الأمريكي وخيانة النظام.. التعليم كساحة للتدمير

لم يكن تدمير التعليم مجرد فشل داخلي، بل تم بتنسيق مباشر مع المؤسسات الأمريكية والأوروبية، وبموافقة رسمية من حكومة الهالك عفاش. منذ 1997، بدأت وزارة التربية بدخول البنك الدولي لدراسة التعليم، ووضع ما سُمّي “استراتيجية توسيع التعليم الأساسي” بقرض 60 مليون دولار. وفي أغسطس 2000، وافق النظام على مشروع تطوير التعليم الأساسي بقيمة 120 مليون دولار، بالشراكة مع بريطانيا وهولندا، بينما اعتمدت الحكومة عام 2002 ست استراتيجيات تعليمية مرتبطة بالبرامج الأمريكية، وتطبيقها بين 2003–2015.

خلال الفترة 2004–2009، حصلت وزارة التربية على منح متكررة ضمن مبادرة “المسار السريع”، منها منحة بقيمة 20 مليون دولار عام 2009، لإدخال التعديلات على المناهج وإعادة تشكيل الكوادر، تحت إشراف مباشر من ضباط المخابرات الأمريكية. نظام عفاش لم يكتفِ بموافقة رسمية، بل سمح لمكتب EDC، المرتبط بالاستخبارات الأمريكية، بإدارة إعداد كتب الصفوف من الأول إلى الثالث من خارج اليمن، وابتعاث كوادر الوزارة للدراسة بالخارج لتولي مواقع قيادية تُنفذ الاستراتيجية الأمريكية.

وتؤكد اعترافات خلية التجسس الأمريكية–الإسرائيلية التي ألقت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية القبض عليها في العاصمة صنعاء أن الولايات المتحدة استهدفت اختراق وزارات الدولة، وبالأخص وزارة التربية والتعليم، لتوجيه التعليم اليمني بما يخدم مشاريعها، وإفراغه من محتواه الوطني. تنفيذ استراتيجية المسار السريع، وتمويل المشاريع الأمريكية، لم يكن اختراقًا قسريًا، بل اتفاقيات وشراكات رسمية اعتمدها نظام عفاش، وجعل التعليم اليمني ساحة لمصالح خارجية، حيث فُرضت رؤى وأفكار على الأطفال بعيدًا عن سيادة الدولة ومصالح المجتمع.

جريمة التعليم المنهوب

الحقبة العفاشية لم تكن مجرد فساد مالي، بل جريمة ممنهجة ضد مستقبل اليمن. التعليم الذي كان من الممكن أن يكون أداة نهوض للبلد أصبح رمزًا للإهمال والفشل، والأجيال التي نشأت في تلك الفترة دفعت الثمن غاليًا. النظام سرق ليس فقط الأموال، بل الزمن والمعرفة والفرص من ملايين الأطفال.

اليمن اليوم ما زال يعاني من آثار هذا الفساد، حيث المدارس تفتقر للكوادر والمرافق، والفجوة المعرفية قائمة، والمجتمع يدفع ثمن سنوات من الإهمال المنهجي. مواجهة هذا الإرث وإصلاح التعليم ليست خيارًا، بل ضرورة قصوى لإعادة بناء مستقبل اليمنيين واستعادة ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

 

 

*موقع 21 سبتمبر .