الانتقائية في المواقف العربية.. دمٌ يُبكَى عليه ودمٌ يُهمَل
مبارك حزام العسالي
حين نقولُ إن الاعتداء على قطر لقيَ تضخيمًا غيرَ مسبوق، فهذا لا يعني أن دم القطريين أرخصُ أَو أن العدوان على الدوحة مقبول، بل يعني أن العدوانَ على صنعاء ودمشق وبيروت كان ينبغي أن يلقى نفسَ الصدى، بل وأكثر نظرًا لفداحة الخسائر المتراكمة هناك.
لا يحتاج المرء إلى كثيرِ تدقيقٍ ليدركَ أن النظام العربي الرسمي يعيشُ حالةً فاضحةً من الانتقائية في مواقفه تجاه الاعتداءات الصهيونية.
فمنذ عقود، والكيان الصهيوني يمعن في قصف اليمن وسوريا ولبنان، يُدمّـر البنية التحتية، يحصد أرواح الأبرياء، ويكرّر اعتداءاته عشرات المرات دون توقف.
ورغم هول الكلفة البشرية والمادية، إلا أن القمم العربية لم تتحَرّك، والمؤتمرات لم تُعقد، والأصوات لم تعلُ إلا في بيانات بروتوكولية باردة، أشبه ما تكون بحبر على ورق.
لكن المفارقة الصارخة أن مُجَـرّد حادثة محدودة طالت قطر مؤخّرًا، تحولت إلى ضجيج سياسي وإعلامي ما زالت أصداؤه تتردّد حتى اللحظة.
فكيف نفهم هذا التناقض؟ ولماذا يُجزّأ الدم العربي وتُفرّق مواقف التضامن وفق خريطة التحالفات لا خريطة القيم؟
أولًا: الدم درجات في عرف السياسة الرسمية
من يراقب المشهد العربي يكتشف أن الدم ليس واحدًا.
هناك دمٌ عربي رخيص لا يساوي سوى بيانات الشجب، وهو دم اليمنيين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين.
وهناك دمٌ آخر يعتبر خطًا أحمر، يستنفر المنظومات الإعلامية والسياسية؛ لأَنَّه يرتبط بمصالح أنظمة متحالفة مع الغرب، كما في حالة قطر أَو غيرها من دول الخليج.
هذه الازدواجية تكشف أن معيار التحَرّك ليس حجم الكارثة ولا عدد الضحايا، بل موقع الدولة المستهدفة في ميزان التحالفات.
ثانيًا: اليمن وسوريا ولبنان.. أهداف مشروعة في عرف الصمت العربي
منذ سنوات، والكيان الصهيوني يقصف دمشق وبيروت وصنعاء.
بل إن الاعتداءات أصبحت شبه أسبوعية في سوريا، ومتكرّرة في لبنان واليمن.
ومع ذلك، تحولت تلك الهجمات إلى مشهد “معتاد”، بل ومبرّر لدى البعض، تحت لافتات من قبيل “الصراع مع إيران” أَو “استهداف أذرع طهران”.
وهنا يظهر التلاعب بالرواية؛ إذ يُنزَع عن الضحية صفة الضحية، ويُصوَّر العدوان وكأنه عقاب مشروع، فيتواطأ الصمت العربي مع العدوان الصهيوني.
ثالثًا: قطر.. حين يلامس الخطر المنظومة الخليجية
عندما وقع الاعتداء على قطر، لم يكن الأمر مختلفًا من حَيثُ الفعل الصهيوني، لكنه بدا مختلفًا من حَيثُ رد الفعل العربي.
والسبب واضح: قطر جزء من المنظومة الخليجية المتحالفة مع الغرب، والاعتداء عليها يُقرأ كتهديد لبنية سياسية واقتصادية تُعتبر محمية بالنسبة للغرب وبعض العواصم العربية.
ومن هنا تضخمت الأصوات، ليس حبًا بقطر، بل دفاعًا عن صورة المنظومة بأكملها.
رابعًا: الإعلام وصناعة الرواية الانتقائية
يلعب الإعلام دورًا أَسَاسيًّا في تضخيم حدث وتهميش آخر.
فالاعتداءات المتكرّرة على سوريا ولبنان واليمن غالبًا ما تُمرر في الأخبار كعناوين صغيرة: “قصف إسرائيلي على مواقع كذا وكذا”، بينما تُخصص الساعات الطويلة من البث والحوارات عندما يُمس بلد خليجي.
هكذا يتشكل الوعي الجمعي الموجّه، الذي يعتاد على قصف دمشق وصنعاء وبيروت وكأنه حدث طبيعي، بينما يُصدم عندما يُذكر أن الدوحة أَو أبوظبي أَو الرياض كانت هدفًا.
خامسًا: رسائل العدوّ الصهيوني واستثمار الردود
الكيان الصهيوني يدرك بدقة طبيعة هذا المشهد.
فهو يعلم أن قصفه المتكرّر لليمن أَو سوريا أَو لبنان لن يحرج أحدًا من حلفائه، بل ربما يجد تواطؤًا أَو تبريرًا.
لكن أي استهداف مباشر لدولة خليجية يُحرج العواصم الغربية، وقد يدفعها للضغط على الكيان لتخفيف حدة المغامرة.
ولهذا يُحسب العدوان على قطر أَو الإمارات حسابًا مختلفًا عن العدوان على دمشق أَو صنعاء.
سادسًا: بين التضامن الحقيقي والتضامن الانتقائي
إن التضامن الذي لا يقوم على مبدأ ثابت ليس تضامنًا، بل هو جزء من لعبة الاصطفاف والمصالح.
التضامن الحقيقي يعني أن كُـلّ دم عربي هو دمنا، وكل اعتداء صهيوني هو عدوان علينا جميعًا، مهما كان المستهدف.
لكن التضامن الانتقائي الذي نراه اليوم لا يؤدي إلا إلى تكريس شروخ عميقة في الجسد العربي، ويمنح العدوّ فرصة ذهبية لمزيد من التوسع والاعتداء.
سابعًا: هل المطلوب أن نُفرّق بين الضحايا؟
حين نقول إن الاعتداء على قطر لقي تضخيمًا غير مسبوق، فهذا لا يعني أن دم القطريين أرخصُ أَو أن العدوان على الدوحة مقبول.
بل يعني أن العدوانَ على صنعاء ودمشق وبيروت كان ينبغي أن يلقى نفس الصدى، بل وأكثر؛ نظرًا لفداحة الخسائر المتراكمة هناك.
المطلوب أن نعيد الاعتبار لمفهوم التضامن الجامع، وألا نسمح للسياسة أن تُحوّلنا إلى شعوب تتاجرُ بدم بعضها البعض.
ختامًا..
المسألة إذن ليست “غزة فقط” كما يظن البعض، رغم أنها أُمُّ الكوارث، وليست “قطر فقط” رغم أنها نالت ضجيجًا غير متناسب، بل القضية في جوهرها أن النظام العربي يعيش ازدواجية مقيتة: دمٌ يُستثمر فيه سياسيًّا، ودمٌ يُترك للنسيان.
ما لم نكسر هذه الانتقائية، ونعلن بوضوح أن كُـلّ اعتداء صهيوني على أية أرض عربية هو عدوان على الجميع، فلن يكون للقمم قيمة “بغض النظر عن نتائجها وقراراتها الغير مجدية”، ولن يكون للبيانات معنى، وسنظل شعوبًا تُفرّقها الحسابات السياسية وتجمعها فقط المآسي.