حقائق حول “دولة البغدادي”.. المارد خارج القمقم

فيما ينظر البعض إلى داعش على أنها ظاهرة محدودة الصلاحية تنتهي بمجرد انتفاء الحاجة إليها، يسوق هؤلاء نظريتهم على اعتبار أن التنظيم صنعته أجهزة استخبارات لتحقيق أهداف معينة. هذه النظرية لا تستقيم مع آراء باحثين لا ينفون العلاقة النفعية بين داعش وبعض الأنظمة، إلا أنهم ينفون قطعاً نظرية المؤامرة. بكل الأحوال تتزايد الإشارات حول وجود قرار دولي جدي للقضاء على داعش. خسارته مساحات في العراق وفي سوريا، انطلاق عملية المسار السلمي في سوريا التي لا بدّ أن تصب في غير صالحه، تصريحات رسمية عراقية وأميركية تؤكد هذا المسار، والأهم إدراك المتخاصمين أنه بات يشكل خطراً على الجميع لا سيما بعد التفجيرات التي هزت حواضر أوروبية وأميركية وآسيوية وعربية وتبناها التنظيم. هل يكون 2016 بداية نهاية داعش؟عبدالباري عطوان رئيس تحرير جريدة “رأي اليوم” الإلكترونية وصاحب كتاب “الدولة الإسلامية: الجذور، التوحش المستقبل” يجيب على هذا السؤال.
ما هي تكلفة القضاء على داعش وماذا سيحدث لاحقاً إذا تمكن التحالف الأميركي العربي والحلف الروسي من تحقيق ذلك؟

ما هي تكلفة القضاء على داعش وماذا سيحدث لاحقاً إذا تمكن التحالف الأميركي العربي والحلف الروسي من تحقيق ذلك؟
لا شك أن القضاء على داعش يشكل هدفاً أساسيا لأكثر من 100 دولة ولكن يجب أن نكون حذرين جداً في النظر إلى التصريحات المتفائلة بالقضاء عليه هذا العام. أميركا كانت تتحدث بنفس اللهجة عن تنظيم القاعدة ولكنه بقي موجوداً رغم ذلك لأكثر من عشرين عاماً. داعش هي إيديولوجية وعقيدة بالإضافة إلى كونها دولة تسيطر على أراض في الشام وفي العراق، وهي موجودة في دول الساحل وفي أفغانستان وتركستان والصومال والسعودية وغيرها من الدول. ربما يتم القضاء على بعض تجمعاتها لاسيما أنه جرى تجفيف بعض منابعها المالية وفرض حصار خانق عليها. استيعدت الرمادي وتكريت ولكن داعش ما زالت موجودة في الفلوجة وفي الموصل والرقة. يبقى السؤال الأساسي: ما هي تكلفة القضاء على داعش وماذا سيحدث لاحقاً إذا تمكن التحالف الأميركي العربي والحلف الروسي من تحقيق ذلك؟ إذا لاحظنا أنه بعد خمس سنوات من قضاء الناتو على نظام معمر القذافي فإنه يسعى الآن للقضاء على الفوضى التي أوجدها نتيجة تدخله. عسكرياً الوقائع على الأرض توحي أن القضاء على داعش أمر ممكن، ولكن عندما ننتقل إلى التطبيق العملي لا نعرف ماذا سيحدث. لكي ندرك قوة داعش يجب أن ننظر إلى أعدائها. لأول مرة في التاريخ تتوحد أميركا وروسيا ضد عدو مشترك. السعودية وإيران وهما قوتان إقليميتان لأول مرة يتفقان على عدو مشترك خارج خلافاتهما. هذا التحالف الضخم يملك قوة جبارة لا شك أنها ستحقق انتصارات كبيرة متى بدأت معركة تحرير الموصل أو استعادة الرقة. لكن يبقى السؤال: ماذا بعد ذلك؟. هذا السؤال سيحد من الاندفاعة لأن هناك مصالح متناقضة ومتضاربة. هناك اتفاق على القضاء على هذه الظاهرة ولكن لا يوجد اتفاق على ما بعدها. لكن من دون شك إذا تم تحرير الموصل والرقة فستكون هزيمة كبرى لداعش لأنها تعني نهاية الدولة، ولكن هل سيعني ذلك نهاية التنظيم ونهاية العقيدة؟ بالطبع لا.  المسألة الأخرى هي الحاضنة: كيف نستطيع القضاء على الحاضنة المجتمعية التي تحتضن داعش؟  لتفكيك هذه الحاضنة يجب تحقيق نوع من التعايش المذهبي والطائفي والاجتماعي في العراق، وإيجاد حل سياسي مقبول من جميع الأطراف في سوريا. حتى لو انتصر النظام في سوريا عليه أن يقدم سياسات جديدة تؤدي إلى سحب الذرائع من الجهات التي استخدمت الطائفية وغياب الديموقراطية لتحريض جزء كبير من الشعب السوري. هذا لب المشكلة وليس الإمكانات العسكرية. يجب أن يكون الحل سياسي وعقائدي واجتماعي، وحتى اللحظة هناك حديث عن حل عسكري فقط.

حسابات أميركية

فوجئت أميركا بنمو داعش وقوته، وكما في العراق كذلك في سوريا.

فوجئت أميركا بنمو داعش وقوته، وكما في العراق كذلك في سوريا.
أميركا هي التي خلقت الحاضنة لداعش. فعلت ذلك في بداية غزو العراق عندما حلت الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والحرس الجمهوري وأيدت تهميش قطاع مهم من الشعب العراقي. أميركا في البداية استغلت داعش لممارسة ضغوط  على العراق على قاعدة “لم آمر بها ولم تسأني”. غضت النظر عن هذه الظاهرة لتغيير المالكي والمجيء بحكم جديد يقبل بتوقيع الاتفاقات الأمنية والعسكرية التي تريدها إضافة إلى العقود النفطية، والقبول بمستشارين عسكريين ووجود عسكري أميركي في العراق.
باختصار أميركا استخدمت هذه الورقة وعادت إلى العراق عبر نافذة داعش. المالكي لم يكن يحبذ التواجد العسكري الأميركي في العراق ولكنه أخطأ بسياسات التهميش التي ساعدت على بروز داعش. كان هناك شقين في سياسته: الأول أنه لم يكن يريد إعطاء حصانة عسكرية وأمنية لأميركا في العراق، بما يؤدي إلى انسحابها من دون أي تنازلات من الحكومة العراقية. والثاني التهميش الطائفي التي أعطى أميركا فرصة لاستخدام داعش من أجل إذلال الجيش العراقي عبر هزيمته المدوية في الموصل والأنبار. كان على الحكومة العراقية أن تتنازل. لا ننسى أنه لولا التدخل الجوي الأميركي لسقطت بغداد بيد داعش. الآن الصورة تغيرت. فوجئت أميركا بنمو داعش وقوته. وكما في العراق كذلك في سوريا. عندما خرج المارد من القمقم وأصبح يشكل تهديداً على الدول الحليفة لأميركا في السعودية ودول الخليج وفي مصر وفي ليبيا، أدركت واشنطن أن هذا المارد يجب التصدي له لأن أخطاره باتت أكبر بكثير من امتيازاته. في البداية إذاً حصل سوء تقدير. لنتذكر أن داعش عمرها عامين. يعني عنصر المفاجأة وارد. في العام الأول لم تكن أميركا واعية  لخطرها، كذلك السعودية. وصلت الأموال والأسلحة إلى داعش بشكل كبير جداً. هذا كان أحد علامات الحسابات الخاطئة. الآن بدأت الحملة بتجفيف أذرعها الإعلامية كما بدأت سابقاً بتجفيف مواردها المالية. مؤخراً أغلقت آلاف الحسابات التابعة لها على تويتر وأعتقد أن الحملة ستمتد إلى يوتيوب. لم تعد أميركا تستطيع أن تستخدم بعد الآن ورقة داعش لتهديد روسيا لأن داعش بإيديولوجيته بات يهدد المنطقة كلها. ماذا سيحدث لاحقا؟ لا أحد يعرف. أما الحديث عن أن داعش مخترق من مخابرات معينة أو أن أجهزة تديرها لخدمة أهدافها فهي لا تنسجم مع المنظار الموضوعي. لنتذكر أن المعارضة السورية كانت تتحدث عن أن داعش هو ذراع للنظام السوري. النظريات التآمرية موجودة ولكن يجب أن ننظر إلى الواقع بعيدا من هذه النظريات. في تقديري أن الإسلام السياسي يشكل خطراً على مصالح أميركا وعلى حلفائها في المنطقة، لذلك حصل تغيير في السياسة الأميركية من إسقاط النظام السوري إلى القضاء على داعش. لماذا؟ لأن إسقاط النظام سيمكن داعش من التوسع كما حصل في ليبيا وفي أماكن أخرى.

ماذا عن أوروبا؟

بدأت داعش تعود إلى أدبيات تنظيم القاعدة وإلى نهجه المتمثل بمهاجمة العدو البعيد.

بدأت داعش تعود إلى أدبيات تنظيم القاعدة وإلى نهجه المتمثل بمهاجمة العدو البعيد.
أوروبا استخدمت داعش وساعدت بشكل مباشر في نموه. مثلها مثل أميركا والدول العربية في الخليج ولاسيما السعودية. الهدف كان التعجيل باسقاط النظام السوري ودعم أي طرف يحقق هذه الغاية. لذلك غضوا النظر عن داعش و”جبهة النصرة” و”أحرار الشام” و”جيش الإسلام” وغيرها. الأمير بندر بن سلطان ساعد هذه الجماعات وهذا موثق.
لكن عندما برزت قوة داعش وعقيدته الدموية بدأت أوروبا تخشى على نفسها. في القارة العجوز هناك أكثر من 10 ملايين مسلم، نحو ثلاثة ملايين في بريطانيا وحدها ونحو ستة ملايين في فرنسا. في أوساط هذه الجاليات أصبح هناك من يتعاطف مع داعش متأثراً بالضخ الطائفي المنفلت من الصراع بين إيران ودول خليجية. هذا الضخ المتشدد أدى إلى انضمام بعض القطاعات الإسلامية السنية في أوروبا إلى داعش وتبني عقيدتها. أصبح هذا الأمر يشكل خطراً على أوروبا. الأمر الثاني أن داعش نأت في البداية بنفسها عن أسلوب القاعدة، أي مهاجمة الدول الأوربية والمصالح الأميركية. لم يكن تهديد أوروبا وارداً في حساباتها في مرحلة النشوء. لماذا؟ لأن أولوياتها كانت داخلية. هذه الأوليات بحسب أدبياتها تتلخص في ما يسمى بالتمكّن والتمدّد. التمكّن في الأراضي التي سيطرت عليها في الموصل والرقة وغيرها والتمدد في دول الجوار أولاً، والمنطة العربية ثانياً. ولذلك أقامت ولايات في سيناء وسرت ودرنة وما شابه ذلك. الآن تغيرت الصورة وبدأت داعش تعود إلى أدبيات تنظيم القاعدة وإلى نهجه المتمثل بمهاجمة العدو البعيد، بعدما كانت تركز في البدء على العدو القريب. من هو العدو البعيد؟ هو الذي يحاربها في عقر دارها مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا وأستراليا. من هنا جاءت الضربات في فرنسا وبلجيكا وأميركا وفي دول أخرى، وهذه رسالة مفادها: تريدون أن تقاتلونا على أرضنا سننقل المعركة إلى أرضكم. هنا بدأ القلق الأوروبي يتزايد من الخلايا النائمة ومن اللاجئين القادمين من دول إسلامية شتى. هؤلاء يحتمل أن يكون بينهم مندسون أو أن يتحول جزء منهم إلى خلايا نائمة  أو يتبنوا عقيدة داعش لاحقاً.

الرعاية التركية.. توضيح الملابسات

يتواجد داعش في مناطق قريبة من الحدود التركية ويخوض حرباً ضد أعداء أنقرة وخصومها.

يتواجد داعش في مناطق قريبة من الحدود التركية ويخوض حرباً ضد أعداء أنقرة وخصومها.
تنطلق سياسة الحكومة التركية من أمرين أساسيين: منهجها الطائفي السني، ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. يلاحظ أن داعش يتواجد في مناطق قريبة من الحدود التركية ويخوض حرباً ضد أعداء أنقرة وخصومها: الكرد ووحدات حماية الشعب في سوريا، التشكيلات الشيعية، والنظام السوري، والسلطة العراقية.
هذا يفسر سبب مهادنة تركيا لداعش. إذا استعدته فسينعكس هذا العداء لمصلحة أعدائها، عدا عن أنه سينعكس سلباً على الداخل التركي المكون من فسيفساء طائفية وعرقية مركبة.  إضافة إلى ذلك تحاول تركيا إبعاد خطر داعش عنها وإلا فإن هذا الخطر سيرتد عليها. نتذكر أن هجومين وقعا في تركيا، قبل شهر آذار مارس المنصرم، الأول في محطة قطارات أنقرة والثاني في منطقة السلطان أحمد في اسطنبول. حتى اللحظة لم تعلن داعش مسؤوليتها عنهما علماً أنها لم تخف مسؤوليتها عن كل هجماتها حول العالم، لكن الحكومة التركية هي من اتهمت داعش بالمسؤولية. لماذا حدث ذلك؟ من الممكن أن لا تكون داعش وراء العمليات في تركيا، ولكن من المحتمل أيضاً أنها تريد عبر هذه العمليات إيصال رسالة إلى تركيا مفادها: إياكم أن تنضموا إلى الحرب ضدنا.

المقاتلون الأجانب

لا يشكل المقاتلون الأجانب أكثر من 20% من عدد المقاتلين في داعش وهؤلاء هامشيون وليسوا أساسيين. النواة الأساسية لداعش هم ضباط وعقداء وألوية الجيش العراقي السابق والحرس الجمهوري في عهد صدام. هؤلاء هم أصحاب القرار ويديرون الدولة. لا يستطيع المقاتلون الأجانب أن يضعوا الخطط الاستراتيجية ولا خطط احتلال الموصل والرقة. في الموصل هناك أكثر من مليون نسمة وهناك قطاعات وإدارات للمياة والكهرباء والجسور والتعليم والصحة. المقاتل الأجنبي لا يقدر على إدارة هذه الأمور بينما عمل كوادر الجيش العراقي السابق على نقل الدولة وخبراتها إلى داعش.

مستقبل “الدولة”

عدم وجود سلاح جوي هي من نقاط ضعف داعش ولكن ما يمكن أن يعوض هذا النقص قدرات المقاتلين العالية واستعدادهم للإقدام على عمليات انتحارية.

عدم وجود سلاح جوي هي من نقاط ضعف داعش ولكن ما يمكن أن يعوض هذا النقص قدرات المقاتلين العالية واستعدادهم للإقدام على عمليات انتحارية.
 حدود “الدولة الإسلامية” يمكن أن تنكمش أو تتمدد في السنوات المقبلة، حسب سير المعارك واتساع دائرتها، والدول المشاركة في الحرب لتصفيتها، ولكن فرص صمودها واستمرارها أكبر بكثير من فرص زوالها، مهما تعاظمت الضربات الجوية على مواقعها، لأن فرص حسم المعارك من الجو تتضاءل ولأن داعش بدأت تتأقلم مع هذه الضربات، وبالطريقة نفسها التي تأقلمت فيها قوات حركة طالبان في أفغانستان لأكثر من 13 عاماً.
عدم وجود سلاح جوي هي من نقاط ضعف داعش ولكن ما يمكن أن يعوض هذا النقص قدرات المقاتلين العالية واستعدادهم للإقدام على عمليات انتحارية والصمود في ميادين القتال. موت الخليفة البغدادي قد يكون أحد الأخطار الكبرى التي تواجه “الدولة” وأكثر خطراً من الاقتتال الداخلي أو حدوث انشقاقات، ولكنه في ما يبدو يحظى بحماية قوية. خلال فترة قصيرة جرى تأسيس “الدولة الإسلامية” حسب التعريف الدولي، وهذه الدولة تسعى للتمدد ومن الصعب جداً تدميرها بالوسائل العسكرية لأنها منتشرة في أماكن كثيرة، وتحظى بدعم جماعات إسلامية مثلها في مختلف أنحاء العالم ويمكن أن تعيد تركيز طاقتها بحيث تتخلى عن المعارك التي لا يمكن كسبها وفتح معارك أخرى جديدة. بعض الجماعات قاومت مبايعة داعش ثم ما لبثت أن بدأت تتراجع بما في ذلك تنظيم “القاعدة” الأم. حركة طالبان الأفغانية أيدت دون أن تبايع لأن لها خليفة خاص بها. الخطر الأكبر إذا اتفق الطرفان (داعش وطالبان) ووضعا خلافاتهما جانباً وقررا خوض الحروب سوياً، الأمر الذي قد يحدث تحوّلاً أساسياً في منطقة الشرق الأوسط وآسيا.