تركيا..لم يسدل الستار نهائيا

عبدالباري-عطوان

عبد الباري عطوان

لخصت صحافية تركية مخضرمة، وصديقة، الوضع الحالي في بلادها بالقول “أنا قلقة جدا من مرحلة ما بعد الانقلاب اكثر من قلقي أثناء سماعي بحدوثه، وعندنا استفسرت اكثر قالت “النتيجة واحدة سواء نجح الانقلاب او فشل.. بلادنا باختصار شديد، تنحدر بقوة نحو الفوضى وعدم الاستقرار، والايام المقبلة قد تكون الأخطر في تاريخ تركيا الحديث”.

تحليل الزميلة التي تترأس تحرير صحيفة اقتصادية مهمة، وتقدم برنامجا سياسيا أسبوعيا في أحد المحطات التلفزيونية التركية، يتطابق مع آراء الكثير من الزملاء الأتراك الآخرين الذين اتصلت بهم مستفسرا، مع بعض افتتاحيات الصحف التركية ايضا، فسمعة تركيا التي كانت تسودها والعالم بأنها واحة استقرار في منطقة الشرق الاوسط الملتهبة، تتآكل بسرعة، وهذا إذا لم تكن قد تبخرت.

الانطباع العام لدى الكثير من الخبراء في تركيا وخارجها أن الانقلاب العسكري، سواء كان حقيقيا أو “مفبركا”، أحبط فعلا، ولكن ذيوله، وجيوبه، ما زالت حية، والستار لم يسدل نهائيا عليه، والخطوات التي اقدم عليها الرئيس رجب طيب اردوغان، ومن ضمنها اعتقال الآلاف من قادة الجيش الكبار، وتسريح آلاف آخرين من كبار القضاة والمحافظين، وقادة الأجهزة الأمنية، قد تعجل من هذه المجزرة التطهيرية، وتعطي نتائج عكسية تماما.

 ***

الرئيس اردوغان يستغل الانقلاب لتنفيذ مخطط اعده مسبقا، وهو تصفية جميع من لا يثق بولائهم الكامل داخل حزبه وخارجه، واقامة دولته الخاصة، ووفق مقاسات طموحاته السلطانية، فهو يريد جيشا اردوغانيا يتبعه شخصيا، وليس جيشا لتركيا.. وبرلمانا اردوغانيا بحتا، لا اكراد فيه، ولاحقا، لا معارضة (رفع الحصانة البرلمانية عن 138 نائبا كمقدمة لمحاكمتهم بتهمة الإرهاب).. ويريد مؤسسة قضائية اردوغانية صرفة، ولهذا اعفى ثلاثة آلاف قاض بعد الانقلاب بساعات، وهذا توجه غير مضمون النتائج، لانه يكرس كل السلطات في ايدي الرئيس، وقبل ان يعد الدستور، ويغير النظام التركي الى نظام رئاسي على طريقة الرئاسة الروسية (بوتين)، وليس النظام الرئاسي الامريكي.

في المنظور القريب، يبدو الرئيس اردوغان قويا، لكن على المديين المتوسط والبعيد، ربما لن يكون الحال كذلك، فهناك استحقاقات عديدة وخطيرة في انتظاره، ابرزها الحرب على الارهاب، والحرب ضد حزب العمال الكردستاني الانفصالي، والحرب الثالثة، لمنع قيام كيان كردي على الاراضي السورية المحاذية لحدود تركيا الجنوبية.

الجيش التركي الذي وقف ضد الانقلاب، ولعب الدور الاكبر في افشاله، أو على الأقل بعدم دعمه، ناهيك عن التحرك لاحباطه، هذا الجيش تعرض للاهانة مرتين: الاولى عندما تعرضت بعض عناصره للضرب المهين على أيدي انصار الرئيس اردوغان، والثانية عندما تعرض كبار جنرالاته للفصل والاعتقال دون تقديم أي منهم لمحاكم عادلة، وهذه مكافأة لم يتوقعها هذا الجيش مطلقا.

المفاجأة الاكبر التي جاءت بعد احباط الانقلاب بومين تمثلت في تدهور علاقة الرئيس اردوغان مع حلفائه وشركائه في حلف الناتو، او بالاحرى، ازدادت توترا، خاصة مع الادارة الامريكة التي تلكأت في الاستجابة لطلبه بتسليم خصمه المقيم فيها الداعية فتح الله غولن، واعترضت على حملات التطهير التي يمارسها في الجيش، وسلك القضاء، والمؤسسات الأمنية، وطالبته على لسان وزير خارجيتها جون كيري باحترام المؤسسات الديمقراطية ودولة القانون.

السيد بن علي يلدريم رئيس الوزراء التركي قال ان حكومته تريد اعادة النظر في علاقات الصداقة والتحالف التي تربطها بالولايات المتحدة، وهذا توجه جميل اذا كان جديا، ولكنه قد يكون مكلفا جدا، ويظل السؤال عن البديل في حال ادارة انقرة ظهرها لحليفها الحالي، وحلف الناتو بالتالي؟ وهل يكون التوجه إلى موسكو؟ وهل يعني هذا الوقوف في خندق فلاديمير بوتين في سورية، والتخلي عن المطالبة بشبه جزيرة القرم التي انترعتها روسيا من اوكرانيا وضمتها إليها؟

الموقف العربي غريب جدا، بل ومضحك في الوقت نفسه، فالدول العربية التي دعمت الانقلاب العسكري في مصر لاطاحة نظام منتخب عارضت بقوة الانقلاب العسكري في تركيا، واكدت حرصها على الديمقراطية، وهي التي لم تعرف بعض شعوبها شيء اسمه صناديق الاقتراع، او القضاء المستقل، او احترام حقوق الانسان.

 ***

من المفارقة أن السلطتين الفلسطينيتين في رام الله وغزة التقيا للمرة الأولى، وربما الأخيرة، على إدانة هذا الانقلاب، وتقديم كل الدعم للرئيس اردوغان، وتحرك مهرجانات الفرح حاملة صور الأخير، احتفالا بانتصاره على الطغمة الانقلابية الخائنة، وكل هذا بسبب وعود لم تتحقق برفع الحصار، وسفينة مساعدات جرى تفريغها في ميناء اسدود وليس غزة، وتجاهل كامل لعودة التطبيع الكامل في المجالات الاقتصادية والعسكرية والامنية بين الجانبين التركي والاسرائيلي.

لوغاريتمات عربية وفلسطينية تستعصي على الفهم كليا، تماما مثل الانقلاب العسكري الذي سلط الاضواء عليها، وكشف عن سذاجة مريبة في الإعداد والتنفيذ، أثارت شكوكا حول صدقيته.

الرئيس اردوغان أرسى دعائم تجربة سياسية ديمقراطية اسلامية نموذجية طوال العشر سنوات الاولى من تسلمه السلطة عبر صناديق الاقتراع، وحقق للشعب التركي استقرارا مرفوقا بإزدهار اقتصادي غير مسبوق، وكان الاحرى به ان يحافظ على هذه الانجازات بالبقاء الرئيس الرمز لكل الاتراك في قصره الجديد، واعتزال السلطة التنفيذية كليا، تماما مثلما فعل عظماء قبله، على رأسهم نيلسون مانديلا، ولكنه للأسف لم يفعل، واختار الخيار الاصعب المحفوف بالمخاطر، وغير مضمون النتائج، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.

 

 

نقلا عن رأي اليوم