حين تتحول الشاشات إلى عبء نفسي: كيف تقوّض وسائل التواصل الاجتماعي صحتنا العقلية بصمت؟
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتواصل وتبادل الأخبار، بل أصبحت جزءًا يوميًا من تفاصيل الحياة، ترافق الناس منذ لحظة الاستيقاظ وحتى ما قبل النوم. هذا الحضور الكثيف، ورغم ما يتيحه من قرب افتراضي بين البشر، يحمل في طياته آثارًا نفسية عميقة قد لا ينتبه إليها كثيرون إلا بعد أن تترك بصمتها الثقيلة على المزاج والسلوك وجودة الحياة.
ففي عالمٍ يزداد فيه توثيق اللحظات ونشرها، يجد الإنسان نفسه محاطًا بسيل من الصور المثالية والقصص المنتقاة بعناية، ما يخلق بيئة خصبة للمقارنة المستمرة. هذه المقارنات، خصوصًا على منصات مثل إنستغرام وفيسبوك، تُضعف الثقة بالنفس تدريجيًا، إذ يبدأ الفرد بقياس قيمته الذاتية بناءً على ما يراه لدى الآخرين، لا على واقعه الحقيقي. وتشير دراسات نفسية إلى أن الابتعاد المؤقت عن هذه المنصات يمنح شعورًا أكبر بالرضا ويخفف من الإحساس بالنقص والحسد الاجتماعي.
وعلى مستوى العلاقات الإنسانية، ورغم أن هذه المنصات وُجدت لتعزيز التواصل، إلا أنها في كثير من الأحيان تُنتج شعورًا معاكسًا تمامًا. فالتفاعل عبر الشاشات قد يحل محل اللقاءات المباشرة، ما يجعل العلاقات أكثر سطحية وأقل دفئًا. كما أن متابعة تفاصيل حياة الآخرين، وحفلاتهم ونشاطاتهم، قد تثير لدى البعض شعور “الخوف من فوات الشيء” (FOMO)، وهو إحساس بالقلق والوحدة ناتج عن الشعور بأن الآخرين يعيشون حياة أكثر متعة.
حتى الذاكرة لم تسلم من هذا التأثير. فالهوس بتوثيق اللحظات ومشاركتها قد يسلب الإنسان متعة عيش التجربة نفسها. الانشغال بالتقاط الصورة المثالية أو الفيديو القصير يقتطع جزءًا كبيرًا من التركيز، ما يضعف قدرة العقل على تخزين الذكريات بعمق، ويحوّل التجربة الحية إلى مجرد محتوى رقمي عابر.
أما النوم، فهو من أكثر الجوانب تأثرًا. تصفح الهاتف قبل النوم، والانخراط في محتوى يثير القلق أو الغيرة أو الانفعال، يُبقي الدماغ في حالة يقظة دائمة. يضاف إلى ذلك تأثير الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات، الذي يعرقل إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن الشعور بالنعاس، ما يؤدي إلى نوم متقطع ورديء الجودة.
كما يمتد التأثير إلى مدى الانتباه والتركيز خلال النهار. فالتنقل السريع بين المنشورات، والإشعارات المتكررة، والتدفق المستمر للمعلومات، يجعل العقل أقل قدرة على التركيز لفترات طويلة، ويعزز الاعتياد على الترفيه الفوري بدلاً من التفكير العميق أو الإنجاز المتواصل.
وفي المحصلة، لا يقتصر أثر وسائل التواصل الاجتماعي على الإزعاج أو التشتت، بل قد يسهم في تفاقم مشكلات نفسية حقيقية مثل القلق والاكتئاب، خاصة عند الإفراط في الاستخدام أو ربط القيمة الذاتية بتفاعل الآخرين. تجارب عديدة لأشخاص قرروا التوقف مؤقتًا عن هذه المنصات أظهرت تحسنًا في التركيز، وهدوءًا نفسيًا أكبر، ومساحة أوسع للاهتمام بالنفس والأنشطة الواقعية.
ورغم أن الحل لا يكمن بالضرورة في القطيعة التامة مع العالم الرقمي، إلا أن إعادة تنظيم العلاقة مع وسائل التواصل، وتخصيص فترات خالية من الشاشات، خصوصًا قبل النوم، قد يكون خطوة بسيطة لكنها فعّالة لحماية الصحة العقلية واستعادة التوازن النفسي في زمن الشاشات المفتوحة بلا توقف.