الجلوس الصامت الذي ينهك الجسد… كيف نحمي عضلاتنا وقلوبنا من نمط الحياة الخامل؟


لم يعد الجلوس مجرد وضعية مريحة نلجأ إليها أثناء العمل أو الاسترخاء، بل تحول إلى سلوك يومي طويل الأمد يترك بصمته الثقيلة على صحة الإنسان من دون أن يشعر. فبين المكتب والسيارة والشاشات، يقضي كثيرون معظم ساعات يومهم في وضع الخمول، في وقت تؤكد فيه الأدلة العلمية أن الجسم البشري لم يُصمَّم ليبقى ساكناً طويلاً، بل للحركة المستمرة والتنوع في الجهد.
تشير دراسات حديثة إلى أن الجلوس لساعات طويلة بات مرتبطاً بسلسلة من المشكلات الصحية، تبدأ من آلام الظهر وتيبس المفاصل، ولا تنتهي عند ضعف صحة القلب وارتفاع خطر الإصابة بالسكري وأمراض الأوعية الدموية. ومع أن الجلوس بحد ذاته ليس عدواً للصحة، فإن تحوله إلى السلوك الغالب في اليوم هو ما يجعله خطيراً، خصوصاً حين يتجاوز تسع أو عشر ساعات يومياً.
البحوث الطبية تبيّن أن العلاقة بين الجلوس المفرط وتدهور الصحة ليست فجائية، بل تراكمية، إذ تتدرج الآثار السلبية مع الوقت وتختلف من شخص إلى آخر. ومع ذلك، يكاد العلماء يجمعون على حقيقة واحدة: كل دقيقة تُقتطع من زمن الجلوس وتُستبدل بالحركة تعود بفائدة صحية ملموسة، مهما كانت بسيطة.
أحد أبرز المخاطر المرتبطة بالجلوس الطويل هو فقدان الكتلة العضلية والقوة البدنية مع التقدم في العمر، وهي الحالة المعروفة بـ«الساركوبينيا». فقد أظهرت دراسات واسعة النطاق أن الأشخاص الذين يجلسون تسع ساعات أو أكثر يومياً ترتفع لديهم احتمالات الإصابة بهذا الضعف العضلي بدرجات كبيرة مقارنة بمن تقل فترات جلوسهم. ويزداد الخطر أكثر لدى من لا يمارسون أي نشاط بدني منتظم، ما يجعل الحركة اليومية عاملاً حاسماً في الحفاظ على القوة الجسدية والاستقلالية مع مرور السنين.
ولا تتوقف التأثيرات عند العضلات، إذ يؤدي البقاء في وضعية واحدة لفترات طويلة إلى تيبس المفاصل وقصر بعض العضلات، خصوصاً عضلات الورك، ما ينعكس آلاماً في أسفل الظهر والرقبة والكتفين. ويشرح الخبراء هذه الظاهرة بمبدأ «التكيف مع المتطلبات المفروضة»، حيث يتأقلم الجسم مع الوضعيات التي يكررها، حتى لو كانت ضارة على المدى الطويل، فيصبح أقل قدرة على الحركة الطبيعية وأكثر عرضة للإصابة.
أما صحة القلب، فتعد من أكثر الجوانب تأثراً بنمط الحياة الخامل. فقد كشفت أبحاث شملت عشرات الآلاف من المشاركين أن الجلوس المديد يرتبط بارتفاع خطر الإصابة بقصور القلب واضطرابات النظم القلبي والنوبات القلبية، وحتى الوفاة المبكرة. اللافت أن هذه الأخطار قد تستمر حتى لدى الأشخاص الذين يمارسون الرياضة بانتظام، إذا ظل وقت جلوسهم اليومي مرتفعاً، ما يؤكد أن التمرين وحده لا يكفي لتعويض الخمول الطويل.
لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل. فالدراسات نفسها تحمل أخباراً مشجعة، إذ تبيّن أن تقليص وقت الجلوس ولو بنحو 30 دقيقة يومياً، أو إدخال فترات حركة قصيرة ومتكررة خلال اليوم، يمكن أن يقلل هذه المخاطر بشكل واضح. ويطلق الباحثون على هذا الأسلوب اسم «جرعات التمارين القصيرة»، حيث تُدمج دقائق من النشاط الخفيف، كالمشي أو التمدد أو تمارين بسيطة، بين فترات الجلوس الطويلة.
الخبراء ينصحون بعدم انتظار وقت مخصص للرياضة فقط، بل بجعل الحركة جزءاً عضوياً من تفاصيل اليوم. تغيير وضعية الجلوس كل 15 إلى 30 دقيقة، استخدام السلالم بدلاً من المصعد، الوقوف أثناء المكالمات الهاتفية، أو حتى أداء تمارين شد وثبات عضلي قرب المكتب، كلها استراتيجيات بسيطة لكنها فعالة. كما أن تمارين القوة والتمدد تلعب دوراً محورياً في حماية العضلات والمفاصل وإبطاء آثار التقدم في العمر.
في المحصلة، لا يتطلب التصدي لأضرار الجلوس المفرط معدات خاصة أو وقتاً طويلاً في صالات الرياضة، بل وعياً يومياً بأن الجسد يحتاج إلى الحركة كما يحتاج إلى الراحة. فكل خطوة إضافية، وكل وقفة قصيرة، هي استثمار مباشر في صحة القلب والعضلات وجودة الحياة على المدى البعيد.