في رحاب الشهداء
إلهام نجم الدرواني
نقف عندهم ونحط رحالنا في ذكرهم، ونتفيأ ضلال صبرهم وجهادهم، ونتحسس نورهم، ليكشف ذلك النور الغشاوة عن أبصارنا وحياتنا، فهم الخالدون وغيرهم الفانون، وهم الأحياء وما دونهم أموات، وهم الفائزون بتجارة لا بوار فيها ولا خسارة، وهم الآمنون من عذاب الله والفائزون برضاه.
في رحاب الشهداء تتبعثر الكلمات، وتتلاشى الأبيات، ويجف المداد حياءً وخجلًا في ذكرى من جادوا بأرواحهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم، حتى نحيا أعزاء وكرماء.
في رحاب الشهداء تعجز المشاعر عن نظم كلمات في ما قام الشهيد، بل تتلعثم اللسان عن وصفهم وسرد مآثرهم، فقط تبقى الدموع هي من تختزل كل شيء في مقام الشهداء، تختزل الشوق والحنين.
هم العاشقون لله، الذائبون بحبه، المغرمون بوعدِهِ، فلم تغرهم الدنيا، ولم يلههم زخرفها وغرورها وزينتها، رأوا الدنيا كلها جناح بعوضة في عالم لا متناهي، ورضى الله كانت لهم أقدس الأماني.
نعم.. لقد عرفوا الله حق المعرفة، وعرفوا النهج والمنهاج الذي يسيرون عليه، فمن عرف الله والنهج عرف طريق الفوز، وتحركوا بكل شوق.
تركوا الدنيا خلفهم، وهم يحلقون في ملكوت الله الأعلى، فودّعوا الأم الباذلة، والأب الثابت، والأخ الثائر، والأخت المعطاءة، والزوجة الصابرة، والبنت الفخورة، والابن المقتفي أثر الشهداء، ودّعوا الأهل والأحبة، والرفيق والصديق، والغالي والعزيز، ودعوهم جميعًا، ليس بدموع الفراق، بل بوصية ممزوجة بالعهد، عهد المضي بدربهم والوفاء لدمائهم والسير بخطاهم والانتصار لقضيتهم.
لقد سلكوا طريقًا لا يسلكه إلا خلص البشر، ليدفعوا عنا الشقاء والشر، فأمنوا عذاب الله في سقر، فبينما العالم في طريق، كانوا هم في طريقٍ لوحدهم، يقال له طريق العارفون.
ذهبوا إلى أقدس محراب وأشرف ميدان، ألا وهو ميدان الجهاد في سبيل الله، الذي به يكشف عن الساق، ويقول العدو أين المساق، فيردوه رصاصًا في الرقاب والأعناق.
ذهبوا وسطروا أروع الملاحم في القتال والنزال، وأذاقوا العدو كأس المنايا وأهوال الردايا، فالأرض تشهد لثباتهم، والجبال تحكي مدى صلابتهم، والسماء تروي بطولاتهم، فكان ختام حياتهم الحافلة بالبطولات هي الشهادة في سبيل الله، فتسقط أجسادهم المدرجة بالدماء إلى الثرى، وتعرج أرواحهم إلى الثريا.
لقد ارتقوا ولم يسقطوا، فلم تقدر الأرض على حمل أرواحهم الطاهرة، ولم تستطع الثرى أن تلحد أنفاسهم القدسية، ولم يتمكن التراب أن يدفن تاريخهم الأسطوري، فارتقوا إلى ضيافة الله، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر.
ارتقوا إلى جنة عرضها السموات والأرض، في ضيافة الله تعالى، مستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فلا نصب فيهم ولا سأم، ولا خوفٌ عليهم ولا حزن، فرحين بما آتاهم الله من فضله، فيا لها من مكرمة عظيمة.
لقد ارتقوا تاركين خلفهم جثامين ساكنة، وأجسادًا معطرة بدماء قدسية، تفوح منها رائحة الجنة، وتختزل ألف حكاية ورواية، فتحمل تلك الجثامين الطاهرة إلى روضة الدنيا، وتلحدها أيدي الأهل والمحبين، الذين يذرفون دموع الفراق الدنيوي، بينما لسان حال الشهداء يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون﴾، حينها ترفع الصرخات من تلك الروضات الطاهرة، وتجدد البيعة، ويتحزم الجميع بسلاحهم وبندقيتهم، ويتحركون إلى جبهات الأحرار، ليكملوا نفس المسير، فيرحل بطل، ويأتي من بعده ألف بطل، ليكملوا نفس الطريق، حتى يتحقق النصر المبين.