قراءة في إعلان نيويورك بشأن “حل الدولتين”.. إنقاذ صورة أم حل حقيقي؟


تحليل |علي الدرواني

 

يأتي إعلان نيويورك الصادر عن ما سمي بالمؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية سلميا وتنفيذ “حل الدولتين” في توقيت بالغ الحساسية، حيث يتواصل العدوان الإسرائيلي على غزة بكل وحشيته، وسط تزايد أرقام الضحايا، ومعاناة المدنيين في ظل حصار خانق ومجاعة متصاعدة ذهب ضحيتها العشرات من أبناء غزة، معظمهم من الأطفال. من هنا، يطرح التساؤل المشروع: هل يمثل هذا البيان محاولة حقيقية لحل الأزمة وإنصاف الضحايا، أم أنّه يهدف أساسًا إلى إنقاذ صورة المجتمع الدولي المترنحة أمام شعوب المنطقة والعالم، بعد فشله المستمر في وقف آلة الحرب الإسرائيلية؟

الغياب الأمريكي وفعالية التحرك الدولي

في حين شاركت في المؤتمر 19 دولة ومنظمة، بقيادة فرنسا والسعودية، وحضور: البرازيل، كندا، مصر، إندونيسيا، إيرلندا، إيطاليا، اليابان، الأردن، المكسيك، النرويج، قطر، السنغال، إسبانيا، تركيا، وبريطانيا، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، يلاحظ بوضوح الغياب الفعلي للولايات المتحدة عن قيادة هذا المسار، رغم كونها الممول الرئيسي لـ”إسرائيل”، وضامن أمنها وحليفها الأبرز. هذا الغياب يثير تساؤلات عن مدى واقعية أي تحرك دولي لا تقوده واشنطن أو لا تحظى خطواته بموافقتها. فهل يستطيع المجتمع الدولي فرض أي التزام على الكيان دون ضغط أمريكي حقيقي؟ أم أن أي محاولة خارج هذا الإطار محكوم عليها بالتلاشي؟

مساواة الضحية والجلاد

يزيد من الإحباط أن البيان يعيد إنتاج خطاب المساواة المضلل، مثل قوله “الهجمات من أي طرف”، متجاهلًا حقيقة اختلال موازين القوة بين الضحية الأعزل والمحتل المدجج بالسلاح والدعم الدولي. هذه الصياغة تغسل أيدي المعتدين، وتجرم المقاومة الفلسطينية، وكأن الطرفين يقفان على قدم المساواة في المسؤولية والأدوات.

بنود بلا آليات ملزمة

يتضمن البيان دعوات واضحة لخطوات طالما رفضتها “إسرائيل”: من وقف الاستيطان، إلى الانسحاب الكامل من غزة، وصولًا إلى الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 67. ومع ذلك، لا تبدو هناك مؤشرات على جدية المجتمع الدولي في إلزام “إسرائيل” بهذه البنود، التي تبدو أقرب إلى شعارات ديكورية تحفظ ماء الوجه، ولا تُترجم إلى التزامات فعلية.

تناقض آخر يكمن في مطالبة البيان بتوحيد غزة والضفة تحت سلطة فلسطينية واحدة، في حين تواصل “إسرائيل” عمليًا تدمير غزة ومحاصرتها، وتغذية الانقسام الداخلي الفلسطيني. وتصدر القوانين لشرعنة ضم الضفة وتوسيع الاستيطان فيها، هنا يصبح السؤال ملحًّا: أي جدوى لنصوص على الورق في ظل حقائق ميدانية تعاكسها تمامًا؟

غياب العقوبات تواطؤ أم عجز؟

يزداد الشك حين نلاحظ غياب أي تهديد بعقوبات أو إجراءات رادعة في حال أخلت الصهيونية بالتزاماتها – إن التزمت أصلًا. لا يقرن البيان أي خرق “إسرائيلي” بعقوبات اقتصادية أو سياسية، ما يكشف عن غياب الإرادة الدولية لفرض كلفة حقيقية على الاحتلال، وكأن الحفاظ على مصالح “إسرائيل” وحلفائها أهم من حماية حياة الفلسطينيين وحقوقهم.

وتكتمل المفارقات عند الحديث عن سلاح المقاومة الفلسطينية، الذي يُصوّر في البيان كعامل “يُزعزع الاستقرار” ويُطالَب بتسليمه، بينما لا أحد يطالب الاحتلال بالتخلي عن ترسانته النووية وقدراته العسكرية الهائلة. هكذا يُراد للطرف الأضعف أن ينزع سلاحه، ويُترك الطرف المعتدي حرًّا في تطوير قدراته دون مساءلة.

مطالب إنسانية تُصطدم بتعنت العدو

يدعو البيان إلى إنهاء الحرب فورًا، وتقديم الإغاثة الإنسانية. لكن على الأرض، يستمر الحصار الخانق، وتتعاظم المجاعة. وهو ما يطرح السؤال: ما الذي يمنع تطبيق هذا المطلب الإنساني البسيط؟ وهل يملك المجتمع الدولي الإرادة أو الأدوات الفعلية لكسر إرادة الاحتلال الذي يستخدم الحصار كسلاح حرب؟

أما عن فكرة إرسال بعثة دولية لحماية الفلسطينيين، فهي تبدو بدورها محل شك كبير. هل يمكن تخيّل أن يقبل الكيان الصهيوني المحتل بوجود قوات دولية في غزة؟ وهل لدى الأمم المتحدة القدرة والإرادة السياسية فعلًا لفرض مثل هذه الحماية بالقوة إن لزم الأمر؟

السعودية وتمييع القضية

وفي قلب هذه الصورة تبرز أسئلة أكثر إلحاحًا عن دور بعض الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها السعودية، التي تُقدّم أوراق “السلام” والتطبيع باعتبارها مسارًا واقعيًا لحل القضية، بينما في الحقيقة يجري تمييع الحقوق الفلسطينية لصالح حسابات نفوذ ومصالح استراتيجية مع الغرب و”إسرائيل”. فأي ربح تحقّقه الرياض من ترويج حلول تتجاهل الجذر الحقيقي للصراع، وهو الاحتلال الاستعماري ونزع الأرض والهوية؟

إن أي تسوية لا تُعالج جذور المشكلة ستظل حلاً وهميًا يمدّد عمر الاحتلال بدلًا من إنهائه. وما يُفاقم المأزق أن الكيان يواصل تحدي كل البنود العاطفية لهذه البيانات، فيمعن في الاحتلال والاستيطان والقتل بلا رادع أو مساءلة، مستفيدا من غطاء دولي وإقليمي يكتفي بالبيانات الفارغة، ويُحوّل القضية إلى عنوان للابتذال السياسي، بدلًا من أن تكون قضية تحرّر وحقوق ثابتة لا تقبل التنازل.

وما يزيد من هشاشة هذا المسار أن البيان الأخير ليس سوى وثيقة دولية جديدة، أضعف حتى من قرارات الأمم المتحدة التي لطالما بقيت بلا آليات تنفيذ أو ضمانات إلزامية. وإذا كانت قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة طوال عقود لم تتمكن من وقف الاستيطان أو إنهاء الاحتلال، فما بالك بوثيقة فضفاضة جديدة تفتقر لأي قوة ردع أو عقوبات حقيقية؟ هكذا يتحوّل البيان إلى غطاء دبلوماسي لإدارة الأزمة لا حلّها، ويُستخدم كوسيلة لتجميل صورة المجتمع الدولي، بينما يواصل الاحتلال فرض وقائعه على الأرض بقوة السلاح.