ها نحن نعيش في أجواء الذكرى السنوية للشهيد، تلك المناسبة التي تهب علينا بنسماتها المقدَّسة، حاملةً في ثناياها عبق التضحية وروح الفداء.. إنها ذكرى لا تخص فردًا بعينه، ولا جماعة دون أُخرى، بل هي ظلٌ ممدود يظل كُـلّ بيت، وذكرى حميمة تحتضن كُـلّ قلب.

فما من أسرة إلا وتحضرها صورة شهيدها، ذلك الروح الطاهر الذي ارتقى إلى مولاه، راضيًا مرضيًّا، تاركًا خلفه إرثًا من الذكريات لا يبلى، وسيرةً من العطاء لا تغيب.

إنها ليست مُجَـرّد حكاية غياب، بل هي قصة حضور دائم، حضور في الضمير، وفي الوجدان، وفي مسيرة الأُمَّــة التي لا تنسى أبناءها الذين اشتروا الآخرة بالدنيا.

ونحن نسير في روضات الشهداء، تلك البقاع المقدسة التي تروي بكل حجرٍ فيها قصة كرامة، وبكل شاهد قبرٍ ملحمة إباء، لا نجد وجوهًا من نمط واحد، ولا انتماءات من لون واحد.

ها هي النجوم تتلألأ في سماء ذلك الروض، نجوم من كُـلّ فج عميق، من كُـلّ بيت، ومن كُـلّ حي.

ترى المعلم الذي كان يبني العقول، إلى جوار الطالب الذي كان يتطلع إلى المستقبل، وترى المهندس الذي كان يشيد الحضارة، إلى جوار المزارع الذي كان يحيي الأرض، وترى المواطن البسيط بحلمه المتواضع، إلى جوار الشيخ الكبير بحكمته وتجربته، والشاب اليافع بحماسه وأحلامه.

إنها لوحة إنسانية رائعة، جمعت أبناء الشعب الواحد في بوتقة التضحية، لترسم بأجسادهم الطاهرة ووجوههم المشرقة أروع صور الجهاد والتضحية في سبيل الله وأروع صورة للوحدة الوطنية والانسجام الاجتماعي.

هذه اللوحة البديعة ليست من صنع جيش نظامي مدجج بالعتاد، ولا هي من تنظيم مليشيا حزبية ضيقة الأفق أَو فئة منغلقة على نفسها.

كلا، إنها انعكاس حقيقي وصادق لتنوع هذا الشعب العريق، ولسعة صدره، ولغنى نسيجه الاجتماعي.

وهذا التنوع في ذاته هو أقوى دليل وأبلغ حجّـة، فهو شاهد عدل يلجم أفواه الأعداء، ويسدّ مسامع الدعايات الكاذبة، ويملأ أفواه الحاقدين بالتراب، فهم أمام مشهد إيماني وإنساني خلاب، لا يستطيعون تفسيره إلا بأنه قوة الإيمان وصدق الانتماء إلى الله.

وحين نمعن النظر في صورهم التي حفظها لنا التاريخ، وننظر إلى تلك الابتسامات التي تعلو وجوههم، ابتسامات الأمل واليقين، لا يسعنا إلا أن نتساءل: ما الدوافع الكبرى التي جعلت هؤلاء يستسهلون ركوب الأخطار، ويستعذبون في سبيلها مرارة المعاناة وآلام الجراح؟ إننا نقرأ الجواب في صفاء نظراتهم، في تلك الابتسامات التي تتحدى الموت نفسه.

لقد كان دين الله هو الغاية، ورضوانه هو المنتهى، والحق هو السبيل.

لقد رأوا في التضحية شرفًا لا يعدله شرف، وفي الصبر على الجراح لذة لا تضاهيها لذة، فاستحالت عندهم المصاعب إلى منح، والصبر إلى عطاء، والمرابطة في ساحات الوغى إلى عبادة وَقربان يقرّبهم إلى الله.

لقد تحملوا الصعاب التي تذيب الجبال، ليس طلبًا للغنيمة أَو رياءً للسمعة، بل إعلاءً لكلمة الله والحق، ودفاعًا عن المقدسات، وحماية للمستضعفين، لقد فهموا معنى الحياة الحقيقية، فعاشوا بها وبذلوها في سبيل الله.

فكانت أرواحهم ثمنًا للدين والعزة والكرامة، ودماؤهم زيتًا يضيء مصابيح الهدى للأجيال القادمة.

فالذكرى ليست مُجَـرّد وقفة عابرة، بل هي تجديد للعهد، وتثبيت للعزيمة، واستمداد للقوة من أُولئك الرجال الذين صاغوا من دمائهم الطاهرة دروسًا في العطاء والتضحية بلا حدود، ونقشوا بأرواحهم الزكية أسمى معاني الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الله لنصرة الحق وكسر شوكة الطواغيت، هم أحياء عند ربهم يرزقون، تظل سيرتهم نبراسًا يضيء الدرب، وذكراهم وقودًا يلهب الهمم، لتستمر المسيرة، ويعلو الحق، وتبقى كلمة الله هي العليا.

نسأل الله أن يرحمهم رحمة الأبرار ويسكنهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يجعل مقرهم الأعلى عند المصطفى وآله وأصحاب الكساء، وأن يوفقنا للسير على طريقهم والوفاء لعهودهم، وأن يلحقنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.