جندي الله في ساحة النفس الطويل .. القوة في الثبات والتأثير
قدم الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، في واحد من أهم دروسه الإيمانية التي جمعت الدلالات الإيمانية العظيمة في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) جرعة فكرية وتربوية بالغة الأهمية، تتجاوز الإطار الوعظي التقليدي، لتقدّم رؤية متكاملة لبناء الإنسان المؤمن بوصفه فاعلاً في واقع الحياة، ومسؤولاً عن مواجهة الانحراف والباطل عبر الارتقاء المستمر بالإيمان والوعي والسلوك، ولا يقف الدرس عند عند شرح الدعاء كنص عبادي، بل أعاد تقديمه كمشروع هداية وتزكية وتغيير، يربط بين البعد الروحي والبعد العملي، ويضع الإنسان أمام مسؤوليته التاريخية والأخلاقية.
تقرير / طارق الحمامي
الهداية عطاء إلهي يطلب بقوة الإيمان
يركّز الشهيد القائد على حقيقة محورية، وهي أن الهداية ليست نتاج ذكاء الإنسان أو خبرته أو جهده الذاتي، بل هي توفيق إلهي يُطلب باستمرار، فالإنسان، مهما بلغ من المعرفة أو العبادة، يظل محتاجاً إلى الرجوع إلى الله ، طلب الهداية، طلب التوفيق، طلب الاستقامة، طلب تثبيت الخطى وتسديد الأقوال، ويبرز في هذا السياق استشهاد الشهيد القائد بدعاء الإمام زين العابدين : ((اللهم صل على محمد وآله وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان)) ، وهو دعاء يحمل دلالة عميقة؛ فالإمام الذي عُرف بزين العابدين وسيد الساجدين، لم يرَ في عبادته وتقواه سبباً للاكتفاء أو الغرور، بل دافعاً لمزيد من التواضع والطلب.
ثانياً: مفهوم «أكمل الإيمان» بين القرآن والدعاء
يُعيد الشهيد القائد ربط الدعاء بالقرآن الكريم، مؤكداً أن الإيمان ليس حالة ثابتة، بل مراتب ودرجات، مستشهداً بآيات تصف أعلى مستويات الإيمان، حيث يمتزج الخشوع القلبي، والتفاعل الحي مع آيات الله، والثقة المطلقة بالله، والاستعداد العملي للتضحية في سبيل الحق.
ويحذّر من حالة الرضا بالحد الأدنى من الإيمان، معتبراً أن من يرسم لنفسه سقفاً لا يتجاوزه، إنما يحكم على نفسه بالبقاء دون مستوى أولياء الله، ويعطّل طاقته التأثيرية في الحياة.
الإيمان كقوة فاعلة
من أبرز الدلالات التي أكد عليها الشهيد القائد هي تشبيه المؤمن بـجندي الله، الذي يقاتل في صفوف المقاتلين في سبيله الباذلين أرواحهم له، حيث تكون ساحة تدريبه الأساسية هي النفس، لا الجسد فقط، مؤكداً أن الإيمان العميق يصنع إنساناً مؤثراً، وأن ضعف الإيمان يُنتج حالة عجز حتى مع امتلاك الحق، ويفرّق بين الجندي العسكري الذي تُختصر مهامه في الحركة والتنفيذ، وبين المؤمن الذي تتعدد مهامه لتشمل، التربية والتثقيف والهداية ومواجهة التضليل وبناء الوعي داخل النفوس،
فميدان عمل المؤمن هو الإنسان نفسه، بكل ما يتعرض له من غزو فكري ونفسي وثقافي.
منطق القرآن في مواجهة الباطل
يهاجم الشهيد القائد تلك الفكرة الشائعة التي ترى أن أهل الحق محكوم عليهم بالضعف والاستضعاف الدائم، ويصف هذا التصور بأنه نتاج فهم ناقص للحق، فالقرآن الكريم، يقدّم معادلة واضحة، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، غير أن المشكلة لا تكمن في ضعف الحق، بل في طريقة تقديمه، وفي مستوى من يحمله، فالحق حين يُقدَّم ناقصاً، أو بلا وعي، أو بلا إيمان حي، يفقد قدرته الطبيعية على إزهاق الباطل.
أزمة الاكتفاء المعرفي وخطر الجمود
يسلّط الشهيد القائد الضوء على آفة خطيرة تصيب كثيراً من المتدينين وطلاب العلم، وهي الشعور بالاكتفاء، سواء عبر، إنهاء كتب محددة، أو بلوغ مستوى علمي معين، أو تصور أن ما فُهم كافٍ لبقية العمر، ويؤكد أن هذه الحالة تمثل حاجزاً نفسياً يمنع الإنسان من التعلّم المستمر، ويقطع صلته بمصادر الهداية المتجددة، من قرآن وتدبر وتأمل في الواقع والكون والحياة.
الإمام زين العابدين نموذج العمل في أحلك الظروف
في قراءة تاريخية عميقة، يستحضر الشهيد القائد تجربة الإمام زين العابدين في زمن القهر الأموي، مؤكداً أن انسداد الأفق السياسي لم يمنعه من العمل، بل دفعه إلى، التربية الهادئة، وصناعة الرجال، وبناء جيل للمستقبل، ومن هذه المدرسة خرج الإمام زيد بن علي (عليه السلام)، شاهداً على أن العمل التربوي العميق هو استثمار استراتيجي للتاريخ، موجهاً رسالة للعلماء والمتعلمين والمربين والدعاة بعدم الاستسلام لواقع الإحباط، بل باتباع منهج الإمام زين العابدين، من خلال اختيار ولو عدد محدود من الطلاب وتهيئتهم تهيئة إيمانية تجعلهم قادرين على تقديم الدين بصورة كاملة ، وبث الأمل في نفوسهم ، وحمايتهم من الهزيمة النفسية، فالانتصار الحقيقي يبدأ من الداخل، من بناء الإنسان القادر على حمل الحق بثقة ووعي وإيمان متكامل.
ختاماً
يكشف الشهيد القائد رضوان الله عليه أن دعاء مكارم الأخلاق مشروعاً متكاملاً لبناء الإنسان الرسالي، الذي لا يرضى بالحد الأدنى، ولا يقف عند سقف معين، بل يظل في حالة طلب دائم للهداية والكمال، حتى يصل إلى درجة يستحق أن يكون جدير بلقب ’’جندي الله’’ ، وهذه الدعوة مفتوحة لمراجعة الذات، وإعادة تعريف الإيمان، وتحويله من ادّعاء ساكن إلى قوة تغيير حقيقية في النفس والمجتمع والتاريخ.
يمانيون.