ذكرى الشهيد نبض الخلود في قلب الأمة
صفاء العوامي
ليست ذكرى الشهيد مجرد يوم في التقويم نرفع فيه الشعارات، أو نلقي فيه الخطب الرنانة. إنها حقيقة أعمق من ذلك بكثير، إنها جُرح نازف في قلب الأمة، ووشاح فخر على صدرها، وعهد دائم بين الماضي والمستقبل. هي اللحظة التي تذوب فيها الفردية في بوتقة الجماعة، لتصنع معنى الخلود،هي المواقف التي تُجسد معاني الإيثار .
عندما نتذكر الشهيد، فإننا لا نستحضر صورة الموت، بل نستحضر قوة الحياة بكل معانيها. فالشهيد لم يمت، إنه انتقل من حيز الجسد الفاني إلى فضاء الذكرى الخالدة، إلى ضيافة الرحمن ، من عالم الزمن إلى عالم الدروس والعبر. هو ذلك الكائن الذي وهب أغلى ما يملك – حياته – دفاعاً عن دين الله وفي سبيله ودفاعا عن تراب الوطن، وعن كرامة الإنسان، وعن قيم يؤمن بها. لذا، فإن ذكراه ليست مناسبة للحزن فحسب، بل هي احتفاء بالشجاعة التي تتحدى الخوف، وبالتضحية التي تهزم الأنانية،وتذكير بخير تبديل حيثُ استبدل الشهداء الحياة الفانية، بحياة الخلد الباقية.
فالشهيد يمثل على المستوى الوطني، حجر الأساس في بناء الدولة وشرعية وجودها. هو الدم الذي روى شجرة الحرية، والدرع الذي حمى حرمة الأرض. كل شارع باسم شهيد، كل مدرسة، كل ملعب، هو تذكير دائم بأن هذا الوطن وحريتهُ وكرامتهُ لم تُمنح هدية، بل كان لها ثمناً باهظاً دُفع من أجل أن نتنفس هواءه الآمن. الشهيد هو الرمز الذي يوحد الشعب تحت راية واحدة، راية الوفاء والانتماء، ويجعل من مفهوم “الوطن” كائناً حياً ينبض في ضمير كل مواطن.
أما على المستوى الإنساني، تذكرنا تضحية الشهيد بأسمى قيم الإنسانية، _الإيمان، الحب، والعطاء بلا حدود._ إنها درس في أن هناك ما هو أهم من الحياة ذاتها، إنها المبادئ والمقدسات.
الشهيد يختزل في قصته معنى “الاختيار” في أصعب لحظات الحقيقة، حين يقف الإنسان على مفترق طرق بين البقاء من أجل ذاته، أو العطاء من أجل الآخرين. فيختار ببطولة أن يكون شعلة تنير الطريق للأجيال القادمة.
أما على المستوى الأسري، فذكرى الشهيد هي جرح لا يندمل، ولكنه في الوقت نفسه مصدر فخر لا ينضب. إنها الألم الممزوج بالعزة. العائلة التي تقدم شهيداً هي عائلة قدمت للوطن أغلى ما لديها، فاكتسبت مكانة روحية وأخلاقية في المجتمع. هم حراس الذكرى، يحملون راية الشرف وينقلون قصة التضحية من جيل إلى جيل، لتبقى حية نابضة في ضمير الأمة.
ذكرى الشهيد ليست مجرد استذكار . إنها مسؤولية جسيمة تقع على عاتق الأحياء. هي التزام. التزام بأن لا نخذل ذلك الدم الطاهر، بأن نعمل بجد وإخلاص لأكمال الطريق الذي استشهد من أجله. بأن نكون عند مستوى التضحية، في إخلاصنا في العمل، في صدقنا في القول، في حبنا للوطن، وفي دفاعنا عن الحق. أن نجعله حياً بأفعالنا، لا بمجرد دموعنا، وخطاباتنا.
في الختام، ذكرى الشهيد هي الضمير الحي للأمة. هي البوصلة التي ترشدنا إلى طريق الشرف، والنبراس الذي يضيء علينا دروب المسؤولية. إنها تذكرنا بأن الأرض لا تُحمى بالكلمات، بل بالدماء الزكية، وبأن الحرية لها ثمن، وأن الشهادة ليست نهاية، بل هي بداية الخلود.
فلتكن ذكراهم شعلة في قلوبنا، تدفئنا بالإيمان، وتنير لنا الدرب، وتذكرنا دوماً بأن أرضنا ليست تراباً فحسب، بل هي أرواح طاهرة، سكنت التراب لتبقى الأرواح حرة عزيزة.
“ولا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.”