الهُوية الإيمانية.. بين تشويه التاريخ وحقيقة الحضور


إبراهيم الهمداني

لعل أسوأ ما تعرضت له الشعوب، والبشرية قاطبة، هو أن تاريخها يكتبه المنتصر، فيرتكب بحقها جنايتين قاتلتين في الوقت ذاته؛ حَيثُ يفرض عليها فكره، بنسبة آرائه ومواقفه إليها من جانب، ويزيف وعي أجيالها بهُوية لا تمثلها من جانب آخر.

وفي كلتا الحالتين يمارس كاتب التاريخ “المنتصر” ضد الشعوب سلسلة لا نهائية من التهميش والإلغاء والمصادرة والتغييب الممنهج، في أطر من التبعية لمركزيته المهيمنة.

ولا يختلف التاريخ الذي يكتبه المنتصر عن التاريخ الرسمي الذي يكتبه الحاكم، بوصفه قطب حياة الشعب، المستحق للتسبيح بفضله وتمجيده؛ فكل تفاصيل حياة الحاكم، وحتى أتفهها، لها القيمة الكبرى والأهميّة العظمى، وهي محل إعجاب وتبجيل جميع أبناء الشعب، الذين ضاعوا في الهامش التابع للمركز السلطوي، ولم يكن لهم من قيمة حضورية سوى التصفيق والهتاف: “مات الملك” “عاش الملك”.

ولم يتجاوز حضورهم في السردية التاريخية الخَاصَّة بالسلطة أكثر من ذلك الدور الباهت، بينما تُنسب كُـلّ الإنجازات والانتصارات إلى الملك/السلطة، وتتلاشى بطولات وتضحيات الجنود، وتختفي دماء عامة الشعب في رمال النسيان، وتُنسب الإبداعات والابتكارات والثورات الفكرية إلى عهد الحكم الرشيد، وفي أحسن الأحوال يُشار إلى أسماء العباقرة الذين أحرزوها؛ لأَنَّ الملك الفلاني أَو الوزير الفلاني كان متبنيًا وراعيًا لهم، وصاحب الفضل عليهم، وعلى مسيرة الفكر الإنساني.

لم يتوقف اغتيال تاريخ الشعب اليمني عند عمليتي الجناية والتدجين، التي تعرضت لها مختلف الشعوب، بل زاد على ذلك تفتيت وتجزئة السردية التاريخية السلطوية، وتقديمها على شكل حلقات منفصلة، وأحداث مبعثرة دون تعليل، تفصلها فجوات زمنية مجهولة، الأمر الذي فصل الشعب عن هُويته وتاريخه وعمقه الحضاري الإنساني.

وليس أدل على ذلك من حالة الانفصال المعرفي، التي عكست جهل الشعب اليمني بلغته القديمة “المسند”، بعدما حمَّلها الأسلاف ذلك الكم الهائل من الإرث المعرفي الفكري الحضاري، ليعيد المستشرقون تقديمها إلى أبنائها في ترجمات حرفية قاصرة، ومسارات دلالية مبعثرة، ومعطيات فكرية عقيمة، تحصر الحالة الإيمانية الروحية في حالات شركية واسعة النطاق، تمثل أقذر عملية استهداف ممنهج للوعي الجمعي، بجعل الشرك بالله هو الصورة الدينية الرئيسية في حياة المجتمع اليمني القديم.

بينما تم تغييب وإهمال نصوص التاريخ “نقوش المسند”، التي عجزوا عن تحريف معناها أَو قتله بالترجمات الحرفية، وأصبحت النقوش المهملة – وما أكثرها – في خانة المحظورات، التي يُحرم دراستها أَو تناولها حتى على أهل الاختصاص، الأكاديميين من أبناء البلد.

لم يكن البعد الزمني الأقدم هو ما حال بين الشعب اليمني وتاريخه القديم ولغته المسندية الراقية؛ لأَنَّ ذلك الاغتيال وتلك القطيعة استمرّا بالظهور في مختلف المراحل التاريخية المتعاقبة، خَاصَّة فيما يتعلق بالجانب الديني والحالة الإيمانية لهذا الشعب العظيم.

ورغم إسهاماته العظيمة المشهودة في خدمة دين الله وأنبيائه – عليهم السلام – بشهادة القرآن الكريم، منذ عهد الملك سليمان عليه السلام، إلى عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن التاريخ السياسي تعمد إظهاره في إطار الصورة النمطية للكفر، أَو الشرك بالله في أحسن الأحوال، كحالة سائدة دائمة وليست انحرافا عرضيًّا سرعان ما كانت الحكمة اليمانية تخرجهم منه، كما حدث في قصة إسلام ملكة سبأ (حكومةً وشعبًا) مع نبي الله سليمان عليهما السلام، حَيثُ كان حدثًا فارقًا في تاريخ البشرية؛ إذ أسفر عن تكفُّلِ المؤمنين الجدد بمهمة حمل راية الدين، ليشكلوا إضافة نوعية في ملك الجيش السليماني، وفي مسيرة الرسالة الإلهية بشكل عام.