300 عام من الصمود.. حصن “الغويزي” القلعة الحربية التي حمت عروس البحر العربي
300 عام من الصمود.. حصن “الغويزي” القلعة الحربية التي حمت عروس البحر العربي
محسن علي
على صخرة شامخة- تمد أنفاسها نحو السماء- تطل على المدخل الشمالي الشرقي لمدينة المكلا الساحلية بمحافظة حضرموت (المحتلة) حاليا شرقي الجمهورية اليمنية، يقف حصن”الغويزي” الحربي كامل المرافق، شاهد صامت على ثلاثة قرون من التاريخ، وصرح معماري جمع بين البساطة الطينية والمنعة العسكرية، ورمز حي لصمود حضرموت وعنوان هويتها اليمنية.
الشعار الإقتصادي لـ”عروس البحر العربي”
وفي الوقت الذي تتهاوى فيه الحصون أمام عاديات الزمن، يظل الغويزي، الذي شُيّد في عام 1716م، يروي قصة إمارة كسادية قررت تحصين عاصمتها من براثن الاحتلال والغزو العثماني، ليصبح اليوم أيقونة سياحية وشعاراً اقتصادياً لـ “عروس البحر العربي” فما هي أسرار هذا الحصن، وكيف نجح في أداء وظيفته الحربية على مر العصور؟
النشأة والدور الاستراتيجي
يعود تاريخ إنشاء حصن الغويزي وفق مصادر تاريخية إلى عام 1128هـ الموافق 1716م، في فترة حكم عهد سلاطين آل الكسادي الذين أسسوا إمارتهم في المكلا، و جاء بناء الحصن كجزء من خطة دفاعية شاملة لتعزيز أسوار وتحصينات المدينة، التي أعلنوها عاصمة لهم في عام 170م، والذين كانوا قد استطاعوا الانفراد بحكم ذاتي مستقل في المنطقة السهلية الواقعة بين البحر والجبل إلى الشرق من مدينة عدن بمسافة (1080 كم)، والتي عرفت في المصادر التاريخية باسم الخيمة حسبما يذكر المؤرخ الحضرمي صالح الحامد، وأسسوا ما عُرف بالإمارة الكسادية، إبان الغزو والاحتلال العثماني الثالث لليمن والانفراد بحكم المنطقة, وعمد آل الكسادي إلى فرض نفوذهم على الخيمة التي يُرجح الحامد أنها هي المدينة التي بناها الملك المظفر الرسولي بعد سنة 670هـ (1035م)؛ وعندما أعلنها الكساديون إمارة أو سلطنة مستقلة بحكمهم أسموها المكلا في العام 1115هـ (1703م)، وشرعوا بتعزيز أسوارها وتحصيناتها الدفاعية.
الغويزي ينافس دار الحجر
يجسد حصن الغويزي أحد نماذج قليلة لنمط عمارة الحصون والقصور المعلقة على الصخر، وبرغم الفارق الشاسع في الحجم ومواد البناء بينه وبين أبرز نماذج هذا النمط المعماري في اليمن؛ إلا أنه أمسى ينافس في شهرته قصر دار الحجر الشهير شمال غرب العاصمة صنعاء.
أهداف بناء الحصن
كان الهدف الأساسي من بناء الحصن عسكرياً بحتاً، حيث أقيم على صخرة ترتفع حوالي 20 متراً، ليتمكن من الإشراف الكامل على الوادي والطريق البري المؤدي إلى المكلا من الشمال الشرقي، وقد كان هذا الموقع الاستراتيجي ضرورياً لـ رصد الهجمات العسكرية والرد عليها، خاصة تلك التي كانت تستهدف المدينة من ناحية البر، والتي كانت تأتي غالباً من القوى المنافسة كالسلطنة الكثيرية والسلطنة القعيطية.
فن التحصين الحضرمي
يُعد الحصن مثالاً فريداً لنمط عمارة الحصون المعلقة على الصخر، ويتميز بأسلوبه المعماري الحضرمي التقليدي الذي يعتمد على المواد المحلية، لضمان المنعة والثبات على التل الصخري، حيث تم تشييده على صخرة عالية، واستخدمت الأحجار المهندمة في بناء الأساسات الأرضية.
مكوناته الفن المعماري ومميزاته
على متن التل الصخري، يتألف الحصن من طابقين، حيث يحتوي الطابق الأول على عدة حجرات صغيرة مع نوافذ محدودة، بينما يتميز الطابق الثاني بنوافذ طويلة مستطيلة الشكل، ويُزيّن سطح الحصن سور متعرج يصل ارتفاعه إلى 1.5 متر من مستوى السطح.
كما تحتوي الجدران الخارجية على نوافذ منشورية الشكل من جميع الاتجاهات، أما الطابق الثاني، فيتميز بجدران ذات سقف مكشوف يصل ارتفاعها إلى 20 متراً، ويتم الصعود إليه عبر سلالم مرصوفة تصل إلى بوابته المقامة في الجهة الشمالية، ويبلغ اتساع البوابة 1.2 متر.
وكما هي تقاليد البناء الطيني في وادي حضرموت؛ فقد تم بناء أساس الحصن من الأحجار المرتب، في حين استخدم الطين واللبن المخلوط بالتبن لبقية الجدران، أما سقفه فقد تمت بواسطة عدد أخشاب من أشجار السدر والأراك وغيرها من أشجار النبات الطبيعي في الوادي، التي تُرصف على جذوع النخيل الممتدة بين مداميك (جدران) سمكها بين متر ونصف المتر، وتُكسى بطبقات من الطين المخلوط مع التبن والبطحاء (الحصى) والرماد.
بالقرب من الحصن وعلى بعد 30 متراً إلى الجهة الشمالية الشرقية شُيّد صهريج للمياه على هيئة مبنى يصل ارتفاعه إلى 1.2 متر وتحيط به قناتا مياه جنوباً وغرباً بنيتا من الأحجار والقضاض وكان الغرض من الصهريج تزويد الحصن بالمياه، وفقاً للمراجع التاريخية.
وبالرغم من أنه يعد تحفة معمارية فريدة إلا أن عوامل الطبيعة وغياب الصيانة تركت عليه بعض الجراح، حيث تهدمت أجزاء من السور جراء السيول والأمطار بالإضافة إلى تهدم الطريق المرصوفة بالأحجار المؤدية للحصن.
الحارس المتوثب
سجل الحصن تاريخاً مشرفاً في أداء وظيفته الحربية، حيث كان بمثابة سد منيع في وجه الحملات والغزوات التي استهدفت المكلا، وبسبب دوره المحوري في حماية المدينة، أطلقت عليه تسميات عدة، أبرزها: “القفل” و”الفك” و”الأسد”، وهي أسماء تعكس مدى منعة وقوة الحصن، أما الاسم الأكثر شيوعاً، “الغويزي”، فيُنسب إلى أحد حراس المدينة القدامى، ويدعى سعيد الغويزي، الذي تولى حراسة الموقع لفترة طويلة، فالتصق اسمه بالحصن، تماماً كما حدث مع حصني الغارق والعينة.
رمز المكلا المعنوي والأيقونة السياحية

على الرغم من أن السلطنة القعيطية استولت على المكلا عام 1915م، إلا أنها حافظت على حصن الغويزي، بل وأضافت إليه مبنى مجاوراً، وقد خضع الحصن لعدة عمليات ترميم، كان آخرها قبل سنوات، حيث طُليت جدرانه بمادة النورة البيضاء ورُصفت ممراته ودرجه بالأحجار، ليتحول من قلعة عسكرية إلى أثر تاريخي ورمز معنوي لمدينة المكلا ومحافظة حضرموت.
ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم يُعتبر الحصن بمثابة البوابة التاريخية للمكلا من جهة البر، واحد أشهر المعالم التاريخية يفي اليمن، وأول مستقبلي الزوار القادمين من عدن، كما أن صورته أصبحت شعاراً اقتصادياً علامة تجارية لمدينة المكلا، خاصة في أسواق الأسماك، مما يؤكد تغلغل الصرح في الوجدان والهوية الحضرمية، علما بأنها تعاقبت عليه الأعوام وتركته على هذه الحال شامخاً يعاني بعض الجراح، محتفظاً ببقايا من مفردات الحياة الحضرمية التقليدية تحاول التمسك على جدران أوشكت على الرحيل، ويتهدد بقاءه الغزاة الجدد في عصرنا الراهن سيما وقد وضعت المعالم التاريخية والأثرية لليمن في مرمى الاستهداف.
يمانيون.

