حصار عربي بواجهة مصرية: كيف تحوّلت المساعدات إلى رهينة ميليشيات على أبواب غزة؟
لم يعد الحصار المفروض على قطاع غزة مقتصرًا على الأسلاك الشائكة والمعابر التي يتحكم بها الاحتلال الإسرائيلي، بل اتخذ في الآونة الأخيرة شكلًا أكثر تعقيدًا وخطورة عبر ما تصفه مصادر فلسطينية ومصرية بـ«حصار بالوكالة» يُدار من داخل الأراضي المصرية نفسها. فشاحنات المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية المتجهة إلى غزة باتت تواجه مسارًا طويلًا من العرقلة والاستنزاف، يبدأ قبل وصولها إلى معبر كرم أبو سالم، وينفّذ على الأرض بأيدي مجموعات مسلحة تعمل تحت غطاء أمني مصري وبما ينسجم مع الشروط الإسرائيلية.
ووفقًا لمصادر تحدثت لصحيفة «العربي الجديد»، فإن مجموعات مسلحة تابعة لما يُعرف بـ«اتحاد قبائل سيناء»، الذي يقوده رجل الأعمال المقرّب من السلطة إبراهيم العرجاني، تنتشر على الطريق الدولي بين الشيخ زويد ورفح، وتقوم بإيقاف الشاحنات واحدة تلو الأخرى، لتخضعها لتفتيش دقيق ومهين. هذا التفتيش لا يختلف في جوهره عن إجراءات الاحتلال، إذ يتم بحجة منع إدخال مواد تصنّفها “إسرائيل” كممنوعة، في مشهد يعكس تنفيذًا مباشرًا للتعليمات الإسرائيلية ولكن بأيدٍ مصرية.
شهادات سائقي الشاحنات تكشف جانبًا قاسيًا من هذه الممارسات، حيث يتم إنزال الحمولات كاملة، وتمزيق أكياس الطحين والمواد الغذائية، ما يؤدي إلى إتلاف كميات كبيرة من المساعدات التي يُفترض أن تنقذ أرواح المدنيين المحاصرين في غزة. وفي حالات الاشتباه، لا يقتصر الأمر على التعطيل، بل تصل الإجراءات إلى مصادرة الشحنات بالكامل، وأحيانًا احتجاز الشاحنات نفسها، قبل نقلها إلى مخازن تابعة لشركة «أبناء سيناء»، في سلوك يصفه متابعون بأنه أقرب إلى القرصنة المنظمة منه إلى أي إجراء سيادي أو أمني.
البعد الأخطر في هذه القضية يتجاوز التفتيش إلى ما يشبه نظام ابتزاز مالي واسع النطاق. إذ كشف تاجر فلسطيني مقيم في القاهرة، فضل عدم ذكر اسمه، أن التجار يُجبرون على دفع ضمانات مالية ضخمة قد تصل إلى مليون دولار لشركة «أبناء سيناء» كشرط أساسي للسماح بإدخال بضائعهم إلى غزة. كما أوضح أن مرور كل شاحنة يتطلب ما يقارب 100 ألف دولار، فيما تُفرض غرامات تصل إلى 70 ألف دولار على أي شاحنة يُعثر بداخلها على مواد تعتبرها “إسرائيل” محظورة، تُقتطع مباشرة من التأمين مع مصادرة الشحنة دون أي حق في الاسترجاع.
اللافت أن هذا الدور المصري في تشديد الخناق على غزة لم يعد موضع انتقاد فلسطيني فقط، بل بات يُناقش حتى داخل الأوساط الإسرائيلية، التي ترى في إغلاق معبر رفح والإجراءات المصرية المشددة عنصرًا حاسمًا في إحكام الحصار. وبهذا، تتكرس صورة حصار متعدد الوجوه: احتلال يفرض شروطه، وميليشيات محلية تنفذها، ونظام رسمي يوفّر الغطاء، فيما يدفع سكان غزة الثمن جوعًا وحرمانًا.
هكذا تتحول المساعدات الإنسانية من شريان حياة إلى ورقة ضغط، ويُعاد إنتاج الحصار لا بجدار إسرائيلي فقط، بل بأدوات عربية، في واحدة من أكثر صور التواطؤ قتامة في تاريخ القضية الفلسطينية.