ومن يتأمل مسار الأحداث خلال العقود الماضية يدرك أن قضية القدس لم تكن يومًا مُجَـرّد مِلف سياسي أَو ورقة تفاوض، بل كانت وما تزال البُوصلة التي تكشف حقيقة الأنظمة، وتفضح من يقف فعليًّا مع الأُمَّــة ومن يتاجر بها.

فالقدس ليست مدينة كبقية المدن، بل هي مقياس الهُوية، وامتحان الإيمان، ومفتاح العروبة.. وهي نقطة الالتقاء بين التاريخ والشرعية، وبين الدين والكرامة.

ومن يفرط فيها يفرط في كُـلّ شيء؛ لأن التفريطَ في القدس لا يأتي بمعزل عن التفريط في بقية القضايا.

فمن يساوم على القدس اليوم سيساوم غدًا على مكة والمدينة، وسيقايض القيم بالمصالح، والحق بالمال، والهُوية بالتحالفات الأجنبية.

ومن خان القدس سيخون أم القرى؛ لأن الخيانة ليست موقفًا منفصلًا، بل منهج يبدأ صغيرًا ثم يكبر حتى يصل إلى عمق الأُمَّــة وروحها.

إن الأنظمة التي فتحت أبواب التطبيع مع الاحتلال لا تستطيع الادِّعاء بأنها تدافع عن مكة أَو تحمي الحرمين؛ فمن يعجز عن حماية أولى القبلتين لا يمكن أن يُؤتمن على القبلتين الأخريين.

ومن يمد يده للاحتلال، ويستقبل ضباطه، وينسق مع أجهزته، لا يفعل ذلك من باب السياسة أَو البحث عن الاستقرار، بل لأن بوصلته الأخلاقية قد ضاعت، ولم يعد يرى في القدس إلا مِلَّفًا مزعجًا يريد التخلُّصَ منه لإرضاء القوى الكبرى.

لقد أثبتت التجربة أن الدفاع الحقيقي عن أم القرى لا يأتي من التحالفات الغربية، ولا من صفقات السلاح التي تُشترى بالمليارات، بل من الموقف الصادق تجاه فلسطين، ومن الانتماء الفطري لقضايا الأُمَّــة، ومن الإيمان بأن سقوط القدس هو سقوط للهيبة العربية والإسلامية، وأن بقاء الاحتلال تهديد مباشر لكل أرض عربية، من صنعاء إلى مكة، ومن غزة إلى بغداد.

والدول التي تخلت عن القدس هي نفسها التي تخلت عن الشعوب، وتخلت عن المظلومين في اليمن خلال سنوات العدوان، واصطفت إلى جانب مشاريع الفوضى التي مزقت المنطقة ودفعت بالأمة إلى الانحطاط السياسي والاقتصادي.

وفي الوقت الذي تصمت فيه بعض الأنظمة عن جرائم الاحتلال، وتتعامل مع القضية الفلسطينية كأنها عبء يجب التخلص منه، يقف الأحرار في اليمن ولبنان والعراق وفلسطين متمسكين بثوابت الأُمَّــة، مؤمنين بأن حماية القدس جزء من حماية مكة والمدينة، وأن الحرب على غزة ليست حربًا على الفلسطينيين فقط، بل حرب على كُـلّ صوت يرفض الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.

وقد أثبتت الشعوب أن موقفها ثابت لا يتغير مهما تغيرت السياسات، وأنها تنتمي للقدس بالفطرة، وتدافع عنها كما تدافع عن أم القرى.

إن الأُمَّــة التي تضحي؛ مِن أجلِ القدس هي الأُمَّــة القادرة على حماية مقدساتها، وهي التي لا تُباع ولا تُشترى، ولا تُخدع بتهديدات الخارج ولا بوعود الداخل.

والأنظمة التي فقدت ثقة شعوبها؛ بسَببِ مواقفها من فلسطين لن تستطيع إقناعهم بأنها حامية الحرمَينِ أَو ممثلة للإسلام؛ فالشرعية الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُكتسب من الموقف الأخلاقي تجاه قضايا الأُمَّــة، وفي مقدمتها القدس.

فالقدس مرآة تكشف الوجوه؛ من خلالها نميز بين الأصيل والدخيل، وبين القائد والتابع، وبين من يحمل هم الأُمَّــة ومن يحمل هم نفسه.

ومن يقف مع القدس يقف مع أم القرى، ومن يخون القدس يخون أم القرى؛ لأن الخيانة واحدة، ولأن من يتخلى عن أولى القبلتين سيتخلى عن غيرها، مهما رفع من شعارات أَو كرّر من ادِّعاءات.

لقد سقطت الأقنعة، وبات المشهد واضحًا: هناك من باع القدس علنًا، وهناك من صانها بدمه، وهناك من اختار الصمت انتظارا لما يُملى عليه من الخارج، وهناك من قرّر أن يقف في وجه الاحتلال برغم الحصار والجراح.

وفي النهاية، التاريخ لا يكتب الأقوال، بل يكتب المواقف؛ ولا يسجل الشعارات، بل يسجل من وقف مع القدس ومن تآمر عليها، ومن ناصر المظلومين ومن سلمهم.

وهكذا، يصبح السؤال أمام كُـلّ عربي ومسلم: إلى أي صف تنتمي؟ إلى صف الأُمَّــة التي تقاتل؛ مِن أجلِ القدس؟ أم إلى صف الأنظمة التي خانتها؟ فالموقف من القدس ليس موقفًا سياسيًّا فقط، بل هو موقف يعكس أصالة الإنسان وكرامته وإيمانه وهويته.

ومن خان القدس خسر نفسه قبل أن يخسر التاريخ، وخسر مكة قبل أن يخسر فلسطين، وخسر الأُمَّــة قبل أن يخسر الأرض.