بين الركام وطوابير الماء… أطفال غزة يفقدون مقاعد الدراسة ويقاتلون من أجل البقاء


في غزة، لم يعد الصباح يحمل رائحة الحقائب المدرسية ولا ضجيج الطابور الأول، بل حلّت مكانه طوابير طويلة من الأطفال يحملون جالونات الماء على أكتاف ضعيفة، في مشهد يلخص قسوة الحرب التي مزقت ملامح الحياة ودفعت جيلاً كاملاً بعيداً عن التعليم نحو صراع يومي من أجل البقاء. فبرغم إعلان وزارة التربية والتعليم عن بدء العام الدراسي 2025–2026 عبر “مدارس افتراضية” تبدأ دروسها عند الساعة الثالثة عصراً، فإن انقطاع الكهرباء وتدمير آلاف الأجهزة الإلكترونية جعل هذا النظام مجرد حلم بعيد المنال لمعظم الطلبة.

محمد عليان، الطفل من منطقة الصفطاوي، لم يعد يعرف طريق المدرسة. يحمل جالونين كبيرين وهو يقول بمرارة إنه نسي الكثير مما درسه، بعدما أصبحت أيامه موزعة بين جمع الحطب وتعبئة المياه. يمسح العرق عن جبينه ويتابع: “كنت أحلم أن أكون مهندساً… اليوم لا أعرف إن كنت سأعود للدراسة أصلاً”. ويقف خلفه أطفال كثر يطرحون السؤال نفسه: لماذا تُستهدف المدارس والأطفال، ولماذا تُنتزع منهم طفولتهم بهذه القسوة؟

ومن بين تلك الوجوه الصغيرة، يظهر خضر ذو السنوات التسع، يرافق شقيقته يومياً لحمل قرب الماء في رحلة تتكرر مرات عديدة. وعلى بعد خطوات، يقف إلياس موسى وشقيقته سالي، وهما يجرّان أنفاسهما بصعوبة من شدة التعب. تحول حلم الحقيبة المدرسية إلى ثقل جالون ماء أصفر بين أيديهم الصغيرة. فقد دمرت الحرب شبكة المياه والصرف الصحي في حي الشيخ رضوان، فباتت مسؤولية جلب الماء جزءاً من يومهم الذي لم يعد يشبه طفولة.

سالي، بيدين ترتجفان، تعترف بشوق موجع: “اشتقت لمدرستي… لأصدقائي… حتى إنني نسيت كيف أمسك القلم”. هي اليوم — كغيرها — تحمل الماء والحطب بدلاً من الكتب والدفاتر، وتتعلم البقاء أكثر مما تتعلم العلم.

ومع النقص الحاد في مياه الشرب، اضطر السكان لاستخدام مياه مالحة في الغسيل والتنظيف، ما يعرض الأطفال لأمراض ومشاكل صحية خطيرة تتفاقم تحت ظل حصار طويل وحرب مدمرة. وتشير الأرقام إلى مأساة أعمق: أكثر من 25 ألف طفل بين شهيد وجريح منذ اندلاع الحرب، بينهم 10 آلاف طالب فقدوا حياتهم أو أُصيبوا، لينهار بذلك مستقبل جيل كان يستعد لفصول جديدة ووجوه المعلمين.

المدارس تحولت إلى أنقاض، والكتب إلى ذكرى، والطوابير إلى معركة يومية من أجل قطرات ماء. ولم يعد الأطفال يملكون وقتاً للتعلم أو حتى للعب؛ فقد أجبرتهم الحرب على إتقان مهارة البحث عن الماء أكثر من مهارة القراءة والكتابة، بينما يمضي العالم متثاقلاً عن مأساة باتت تبتلع طفولتهم بالكامل.