العرف القبلي.. منظومة قضائية متكاملة من “الغرامة” إلى “تشريف الحكم” تفصل النزاعات بعدالة صارمة “الجزء11”


أعد المادة للنشر: محسن علي
تتجذر الأعراف القبلية كدستور متوارث غير مكتوب، وفي أعماق التقاليد اليمنية، يقف نظام قضائي متكامل بآلياته الصارمة وإجراءاته الدقيقة التي تحكم حياة القبل اليمنية, وبعيدًا عن قاعات المحاكم الرسمية، تُعقد “المواقف” القبلية لفض النزاعات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العرف الحق المستند للقرآن الكريم والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء.
ومن خلال طقوس تبدأ بـ”ضرب السهم” أي “القرعة” وتمر بـ”الغرامة المسنونة” وتنتهي بـ”تشريف الحكم”، يكشف هذا النظام عن فلسفة قضائية فريدة تهدف إلى تحقيق العدالة وردع المماطلين، معتمدة على قوانين متوارثة شفاهةً وكتابةً عبر الأجيال، لتظل الشاهد الأبرز على قوة وتماسك البنية الاجتماعية للقبيلة اليمنية, وهو ما سنستعرضه جميعا في الجزء الـ11 من قواعد العرف القبلي المسنونة والغصابة لقبائل اليمن:

 

رحلة التقاضي تبدأ من بيت الخصوم
بإجراء فريد يُعرف بـ “الغرامة المسنونة”، تبدأ أولى خطوات التقاضي العرفي القبلي بعد موافقة طرفي النزاع على التحكيم، حيث يتم تحديد الطرف الذي يبدأ بـ”الغرامة” عبر القرعة, وتُلزم هذه الغرامة، وهي ذبيحة “شاة” يوميًا، الطرف المستضيف بتقديم دعواه مكتوبة للمحكمين في اليوم الأول.
في اليوم التالي، ينتقل المحكمون إلى بيت الطرف الآخر الذي يلتزم بالغرامة ذاتها، ويقدم إجابته على دعوى خصمه، بالإضافة إلى دعواه الخاصة.
تستمر هذه العملية التبادلية لمدة أربعة أيام، يتخللها تقديم البراهين والإجابات، مع ضمان العدالة المطلقة في قيمة الغرامات اليومية عبر خبراء تثمين.
تضمن هذه الآلية، التي تتم مراقبة تساوي قيمة غراماتها عبر “عدلين خبيرين”، أن يلتزم الطرفان بجدية الإجراءات، حيث تبلغ الحصيلة الإجمالية ست ذبائح، ثلاث على كل طرف، لتشكل تكلفة التقاضي الأولية,
في اليوم الخامس، يبدأ المحكّم في صياغة الحكم، والذي يجب أن يكون مسبباً؛ أي أن يناقش كل دعوى وبرهانها قبل النطق بالقرار, ويُكتب الحكم في نسختين أصليتين، تسلم لكل طرف نسخة.
بينما تُستكمل إجراءات صياغة الحكم وقراءته على الأطراف في اليوم السادس، وهنا تأتي مرحلة “تشريف الحكم”، وهي القبول والرضا بما جاء فيه، حيث يكتب كل طرف عبارة التشريف على ظهر نسخة حكمه ونسخة حكم خصمه، كدليل قاطع على القناعة, بعد ذلك، يتم تنفيذ بنود الحكم وصياغة “محضر تنفيذي” يغلق ملف القضية نهائياً, فيما تصل إجمالي الغرامات إلى ست ذبائح، بواقع ثلاث على كل طرف، وهي تكاليف “مسنونة” ومعروفة مسبقًا.

 

وثائق عرفية تضبط مسار القضية
لضمان نزاهة القضاء العرفي ودقته ومنع الاستغلال وأي تلاعب وقبل أن ينطق المحكم بحكمة لا بد من استيفاء وثيقتين محوريتين حيث، يعتمد القضاء القبلي على وثائق مكتوبة تعتبر بمثابة محاضر رسمية، الأولى: “رقم الاستكمال”: وهي وثيقة وإقرار خطي يحررها كل طرف على حده, ويتم التوقيع عليها بعد تقديم كافة ادعاءاته وبراهينه، وتعتبر إذنًا للمحكم بإصدار الحكم, ولا يجوز لأي محكم إصدار حكمه قبل استلام هذه الوثيقة من الطرفين، وإلا اعتبر حكمه “أبكمًا” وباطلًا, ويمنح الخصم حق الطعن الفوري.
ثانيا: “ملخص الشجار”: وهي وثيقة يدونها المحكم بنفسه، تلخص جوهر القضية من ادعاءات وردود وبراهين، وتُقرأ على الخصوم للموافقة عليها وتوقيعها قبل صياغة الحكم النهائي.

 

صياغة الحكم وتنفيذه.. الدقة والشفافية أولًا
تخضع صياغة الحكم العرفي لشروط صارمة؛ إذ يجب أن يتضمن كل تفاصيل الدعوى والإجابة والبرهان دون إهمال، مع تسبيب كل قرار يتم اتخاذه, ويُكتب الحكم في نسختين أصليتين، تسلم كل نسخة لطرف.
بعد ذلك، تأتي مرحلة “تشريف الحكم”، وهي إقرار كتابي من الطرفين بقبولهما للحكم خلف كل نسخة، لتبدأ بعدها مرحلة التنفيذ الفوري لبنود الحكم، والتي تنتهي بتوقيع “محضر تنفيذي” يغلق ملف القضية نهائيًا.

 

أجرة المحكمين والضمناء..سقف محدد لمنع الاستغلال
لضمان نزاهة المحكمين ومنعهم من استغلال أطراف النزاع، حددت الأعراف القبلية “أجرة مسنونة” لا يمكن تجاوزها, يستحق المحكم أجرة تعادل ثمن ست شياه، تُقسم مناصفة بين طرفي الخلاف، بغض النظر عن عدد المحكمين, كما يستحق الضمناء الذين يكفلون تنفيذ الحكم أجرة تعادل ثمن شاتين, هذا التحديد الدقيق للأجرة يضمن بقاء معيار ثابت للتقاضي ويقطع الطريق على أي أطماع شخصية.
وفي المقابل، يحمي العرف المحكم من مماطلة الخصوم عبر فرض “غرامة وأجرة الطول”، حيث يتحمل الطرف المتلاعب غرامة يومية (ذبيحة) وأجرة إضافية عن كل يوم تأخير، مما يضمن سير الإجراءات بسلاسة.
ولمواجهة المماطلة، فرض العرف “غرامة الطول” على الطرف الذي يتعمد تأخير الإجراءات، حيث يتحمل غرامة يومية تقدر بذبيحة شاة وأجرة إضافية للمحكّم عن كل يوم تأخير.
أما غرامة “محق على مبطل”، فهي شرط استثنائي يسمح بتحميل الطرف الخاسر كافة تكاليف التقاضي, ولا يمكن اشتراطها إلا إذا كان الطرف الرابح قد بادر مسبقاً بعرض حل مختصر ودي يسمى “قدمة الجنب” ورفضه خصمه، وأصر على التحكيم المطول.

 

“المنهى” و”التعكيز”.. نظام استئناف عرفي متكامل
لا يترك العرف القبلي أي مجال للظلم، حيث يوفر نظامًا متطورًا لاستئناف الأحكام, فإذا شعر أحد الأطراف بالظلم، يمكنه الطعن في الحكم عبر مسارين وهما:
أولا: المنهى (الاستئناف): إذا كانت قاعدة التحكيم تسمح بالاستئناف، يتم اللجوء إلى قضاة أعلى درجة يُعرفون بـ”المراغة” وتتدرج مراحل الاستئناف حسب الانتماء القبلي للخصوم، بدءًا من “المراغة القصرة” (مرجع فرع القبيلة)، مرورًا بـ”المراغة الغصاب” (مرجع القبيلة العام)، وصولًا إلى “مراغة النقض والإقرار” (أعلى سلطة قضائية عرفية في اليمن)، والذي يكون حكمه نهائيًا وملزمًا.
ثانيا: التعكيز: في حال كان التحكيم “مطلقًا” (غير قابل للاستئناف نظريًا)، لكن شاب الحكم ظلم واضح، يحق للطرف المتضرر “تعكيز” المحكم.
والتعكيز هو إجراء يتم فيه وضع قطعة سلاح كضمان لجرّ المحكم نفسه أمام “منشد عرف” (قاضٍ متخصص)، ليتم النظر في دعوى الظلم. إذا ثبت صحة الطعن، يتم تعديل الحكم ويتقاسم المحكم والغريم تكاليف التقاضي, أما إذا كانت دعوى الطاعن باطلة، فإنه يتحمل كافة الغرامات والتكاليف.

 

“من طلب الشريعة حرّم قتاله”
يؤكد العرف القبلي على استقلاليته كنظام قضائي قائم على الرضا والاختيار, فمن اختار التحكيم العرفي، يلزمه استكمال درجات التقاضي ضمنه عبر “المنهى”، ولا يحق له اللجوء للقضاء الرسمي’ وفي المقابل، يعطي العرف الأولوية لمن يختار قضاء الدولة منذ البداية، تطبيقاً لقاعدة “من طلب الشريعة حرّم قتاله”.

*المرجع: قواعد العرف القبلي المسنونة والغصابة لقبائل اليمن للشيخ صالح روضان.

 

يمانيون.