قصة “الخبز الأسمر” من موائد الكادحين إلى رمز الصحة


في رحلة تمتد آلاف السنين، ينتقل “الخبز الأسمر” من كونه رغيف الكادحين البسيط إلى أيقونة للطعام الصحي، بعدما تغيّر طعمه وقيمته وطبيعة مكانته على موائد الناس. واليوم، ورغم ارتفاع سعره مقارنة بالخبز الأبيض، بقيت أسطورته الغذائية حاضرة بقوة، فيما تراجعت مكانته على رفوف المخابز الحديثة لصالح الأرغفة المنمّقة والمنكهة والمشبعة بالسكر والملونات.

ورغم أن الرغيف الأسمر كان في الأصل نتاج طحن القمح بقشرته كاملة، وهو ما جعله غذاءً متكاملاً اعتمد عليه الفقراء عبر العصور، فإن تطور صناعة الخبز قاد إلى فصل الحبة الذهبية عن قشرتها، فنتج الخبز الأبيض بصورته الحالية، التي تخلّف كثيراً عن القيمة الغذائية للرغيف الأول. ومع إضافة السكر والمنكهات، ابتعدت الأرغفة الحديثة عن الأصل النقي الذي امتازت به الحبوب القديمة، وبات الخبز الأبيض أقرب للحلويات منه إلى الغذاء، فيما ظل الأسمر، رغم ندرته، أكثر قرباً لصحة الإنسان.

تعود جذور الخبز الأول إلى الأردن ومصر وفلسطين، بحسب المصادر العلمية التي تؤكد أن اكتشافه وقع صدفة قبل آلاف السنين. وكان الفراعنة أول من صنعوا الرغيف الأسمر القديم، لدرجة أن العمال الذين شيّدوا الأهرامات كانوا يتقاضون أجورهم على شكل أرغفة سمراء. ومع أن اليونانيين عرفوه متأخرين نسبياً، فإنه تحول لديهم إلى رمز ديمقراطي بعد أن استند الحكيم سولون إلى مكانته لدى الفقراء لصوغ قوانين غيّرت المشهد السياسي القديم.

أما في العصر الحديث، فقد دخل الرغيف السرديات الثقافية والفنية، وبلغت صورته الشعبية ذروتها في الثمانينيات مع الأنيمي الياباني “الرغيف العجيب”، الذي منح الرغيف حياة وشخصية، وربط بين نقائه وصحة الإنسان في مواجهة “قط البكتيريا”. وفي السينما المصرية، ظل الخبز الأسمر رمزاً للخشونة وقلة الحيلة، مرافِقاً لشخصيات بسيطة تخوض معارك الحياة اليومية.

وتحضر القصة أيضاً في السياسة؛ من ثورة الفقراء في أوروبا إلى المقولة الشهيرة المنسوبة لماري أنطوانيت، “إن لم يجدوا خبزاً فليأكلوا البسكويت”، التي جسّدت الهوة بين الطبقات. وفي تلك الحقبة لم يكن الفرق كبيراً بين الأسمر والأبيض، إذ كانت المعركة مرتبطة بالجوع لا بالصحة.

اليوم، يقف الرغيف الأسمر على مفترق طرق: قيمة غذائية عالية، وحضور رمزي تاريخي كبير، لكن وجود متواضع في الأسواق الحديثة التي غيّرت ذائقة الناس وأولوياتهم. ومع ذلك، يبقى هذا الرغيف العريق شاهداً على مسيرة الإنسان مع القمح… من حجر الطحن القديم إلى مخابز المدن المزدحمة.