من ميادين الصمود في صنعاء إلى خنادق العزة في غزة .. قراءة هامة في مضامين رسالة رئيس هيئة الأركان العامة
من ميادين الصمود في صنعاء إلى خنادق العزة في غزة .. قراءة هامة في مضامين رسالة رئيس هيئة الأركان العامة
في خضم المتغيرات الإقليمية المتسارعة وفي مشهد امتزجت فيه الدماء بين غزة وصنعاء ، جاءت رسالة رئيس هيئة الأركان العامة اللواء يوسف حسن المداني إلى قيادة كتائب القسام لتشكّل حدثًا سياسيًا وعقائديًا وعسكريًا يتجاوز إطار المراسلات الرسمية بين شركاء المقاومة ورفاق السلاح، الرسالة، التي حملت في ظاهرها عبارات شكر على تعاز برحيل الشهيد القائد، الفريق محمد عبد الكريم الغماري، انطوت في جوهرها على بيان موقف إستراتيجي عميق يعبّر عن وحدة المصير بين اليمن وفلسطين، وعن إيمانٍ راسخ بأن الجراح لا تُضعف الموقف، بل تُعمّقه وتُثبّته.
هذا التحليل يقدّم قراءة معمّقة في مضامين رسالة اللواء المداني، متناولاً الأبعاد الفكرية والعسكرية والسياسية والإقليمية التي تضمنتها، وما تحمله من دلالات رمزية حول موقع اليمن في معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي، وعلاقته المتنامية بمحور المقاومة.
وبلغة الوفاء للشهداء ومنطق الردع الاستراتيجي، يكشف التقرير كيف تحوّل الألم والتضحيات إلى دافعٍ متجدد للتمسك بخيار المقاومة ونصرة غزة، رغم ما يعيشه اليمن من عدوان وحصار وجراح، ويرصد لحظة رمزية تعبّر عن تحوّل في الخطاب اليمني من الدفاع الذاتي إلى الانخراط الوجداني والسياسي في الصراع العربي الأشمل. وهي لحظة تكشف أن نزيف الحروب لم يطفئ شعلة الإيمان بالقضية الفلسطينية، بل زادها وهجًا، وأن الدم العربي الممتد من صنعاء إلى غزة قد أصبح لغة وحدةٍ وموقفٍ مشتركٍ يتجاوز الجغرافيا نحو مصيرٍ واحد.
رسالة تنبض بقوة العقيدة والصمود
اختار اللواء المداني أن يصوغ رسالته بلغةٍ تستمد قوتها من روح الإيمان والتضحية، وبد افتتاحها بالحمد لله الذي أكرمنا بالجهاد وشرفنا بالاستشهاد، بدا الخطاب مفعمًا بمعاني الصبر والثبات واليقين بالنصر، لم يكن نص الرسالة مجرد تكرار لعبارات التعزية، بل إعلانًا إيمانياً بأن الشهادة لا تعني نهاية المسيرة بل استمراريتها في وجه العدو.
في هذه اللغة التي تتجاوز الحدود، تبدو التضحيات اليمنية امتدادًا طبيعيًا لتضحيات غزة، وكأن الدماء التي سالت على جبال اليمن قد التقت بدماء الشهداء على رمال فلسطين في نهرٍ واحد من الإيمان والكرامة.
من برقية عزاء إلى وثيقة موقف
لم تقتصر الرسالة على تقديم الشكر على تعازي الشهيد القائد محمد عبدالكريم الغماري، بل تحوّلت إلى بيان موقفٍ إستراتيجيّ يجسّد رؤية يمنية ثابتة تجاه معركة غزة.
حيث جدد اللواء المداني للقسام ثبات الموقف بقوله: نحن معكم على العهد والوعد، ثابتون على الوقوف معكم مهما بلغت التضحيات، فإنه يعلن بوضوح أن التمسك بالموقف المساند للمقاومة ليس خيارًا ظرفيًا، بل عقيدة سياسية وعسكرية تستمد قوتها من الإيمان بالله والثقة بوعده وتأييده ومن معاناة الشعب اليمني وتضحياته التي لن تذهب هدراً.
هكذا تتحول لغة الحزن إلى طاقة فعل، وتتحول دموع الفقد إلى وقودٍ لاستمرار العهد، وكأن اليمن يقول عبر رئيس هيئة الأركان جراحنا لا تُنهكنا، بل تذكّرنا بمسؤوليتنا نحو القدس وغزة.
البعد العسكري .. بين الردع والوفاء
الرسالة حملت بين سطورها لهجة حازمة حين أكدت أن اليمن يراقب التطورات عن كثب، وأنه مستعد لاستئناف عملياته في عمق الكيان الصهيوني إذا ما جدد العدوان على غزة.
هذا التصريح لا يأتي في سياق انفعال عاطفي، بل كجزء من عقيدة الردع التي تشكّلها العلاقة المشتركة بين المقاومة في غزة واليمن، حيث تُربط الجبهات من صنعاء إلى غزة ضمن معادلة موحّدة، العدوان في فلسطين يعني اتساع رقعة الرد في البحر أو البر.
كما أن التهديد بإعادة حظر الملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي، يحمل دلالة عسكرية وسياسية في آنٍ واحد، إذ يعلن أن اليمن رغم جراحه ما زال قادرًا على المبادرة والتأثير، وأن تضحياته لم تذهب سدى، بل جعلت منه لاعبًا مؤثرًا في معادلة الأمن الإقليمي.
رسالة الإصرار من قلب المعاناة
ورغم عمق الجراح التي خلّفها العدوان في اليمن، جاءت رسالة اللواء المداني لتؤكد أن المعاناة لم تقتل الإيمان، بل قوّته، فكل شهيدٍ سقط في صنعاء أو صعدة أو الحديدة كان يضيف لبنةً جديدة في جدار الصمود، وكل خسارةٍ مادية كانت تتحول إلى رصيدٍ معنوي في معركة الكرامة العربية.
بهذا المعنى، فإن الرسالة ليست فقط تحية إلى كتائب القسام، بل مرثية للموقف العربي الموحّد الذي يسعى اليمن لإحيائه، ورسالة إلى الأمة مفادها أن الوفاء لغزة هو وفاء للعروبة والكرامة والإنسانية.
الدلالات السياسية والإقليمية
تأتي الرسالة في سياقٍ إقليمي محتدم، حيث تعيد رسم حدود التحالفات في المنطقة، وتُبرز تموضع اليمن في صفّ المقاومة بمواجهة المشاريع الغربية والصهيونية.
إنها تذكير بأن القضية الفلسطينية لا تزال البوصلة التي توحّد الشعوب رغم التباينات، وأن اليمن رغم العدوان والحصار، ما زال يرى في نصرة غزة واجبًا دينيًا وقوميًا لا يسقط بالتعب ولا بالدماء.
الإعلام والمعنى الرمزي
في بعدها الإعلامي، حملت الرسالة تعبئة وجدانية تستنهض الشعور الجمعي بالأمة، إنها تقول لكل من أنهكهم الحصار والوجع: ما زال فينا ما يكفي من العزم لنصرة المظلومين، ومن هنا فإن تأثيرها لا يقتصر على مضمونها العسكري، بل يمتد إلى تشكيل وعيٍ جديد لدى الجماهير بأن وحدة الموقف أقوى من فُرقة الجبهات، وأن الشهادة ليست نهاية الطريق، بل دليل الاستمرار على الدرب.
ختاماً .. حين يتحول الألم إلى عهد
في ختام هذه القراءة، يتضح أن رسالة اللواء يوسف المداني ليست مجرّد وثيقة عسكرية ولا برقية مجاملة، إنها صرخة وعي وإصرار صادرة من قلبٍ مثخن بالجراح، لكنها مشبعة بالإيمان والعزم.
إنها إعلانٌ بأن اليمن، رغم العدوان والدمار والحصار، ما زال يرى في غزة مرآةً لذاته، وفي المقاومة قدرًا لا مفرّ منه، وفي التضحيات دافعًا لا عائقًا، ومن بين الركام والدماء، تتحد صنعاء وغزة في معادلةٍ واحدة: أن الألم لا يُضعف المقاومة، بل يُوقظها، وأن كل قطرة دم تسقط في اليمن، هي وعدٌ جديد بالنصر لفلسطين.
يمانيون.