قمة لإخضاع المقاومة وشرعنة الاحتلال..
شاهر أحمد عمير
القمة الدولية في شرم الشيخ، التي تستعدُّ لها الأنظمة العربية تحت شعار “السلام”، ليست مُجَـرّد لقاءٍ عربي داخلي بل حدث دولي يحضره قادةٌ من دولٍ أُورُوبية، وقد يشارك فيه الأمريكيون أَيْـضًا.
في ظاهرها تبدو محاولةً لتحقيق الاستقرار، لكنها في باطنها محطة جديدة في مسلسل الانبطاح السياسي العربي، حَيثُ الهدف الحقيقي لا يتمثّل في البحث عن سلامٍ عادل، بل في تجريم المقاومة الفلسطينية ونزع سلاحها وفرض واقعٍ جديد عنوانه “أمن (إسرائيل) أولًا”، حتى لو كان الثمن تصفيةَ القضية الفلسطينية من جذورها.
المؤشراتُ والتحضيرات المكثّـفة تُظهر أن القمة ليست سوى أدَاة لتسويق سياسات الاحتلال الأمريكي–الإسرائيلي عبر الأنظمة المطبّعة، التي باتت ترى في الكيان الصهيوني شريكًا استراتيجيًّا وفي المقاومة عقبةً أمام مصالحها.
بهذا تتحوّل القمة إلى إطار سياسي يسعى لفرض ما عجزت الجيوش عن فرضه بالقوة العسكرية: شرعنة الاحتلال وإخضاع الفلسطينيين سياسيًّا وتجريدهم من أدوات مقاومتهم تحت غطاء عربي ودولي، بينما تُصوَّر هذه الإجراءات إعلاميًّا على أنها خطواتٌ نحو “السلام الدائم”.
ومن هنا يبدو واضحًا أن السلاح “العادي” في يد المقاومة – بندقية أَو قذيفة أَو تكتيكات تقليدية – لا يُمنع لخطورته على المنطقة بقدر ما يُمنع لأنه يشكل تهديدًا مباشرًا لمشروع الهيمنة الذي يسعى الاحتلال لفرضه.
فالاحتلال يمتلك ترسانةً متفوِّقة من الأسلحة التقليدية والكيماوية والنووية وطائراتٍ متقدمة، ومع ذلك فشل طوال عقود في سحق إرادَة الشعب الفلسطيني بالقوة وحدها.
لذلك يُحاول الآن تحقيق ما فشل فيه بالسلاح عبر أدوات سياسية ودبلوماسية تقودها دول كبرى وعواصم مؤثرة.
وتستخدم هذه الأدوات شعاراتٍ إنسانيةٍ رنانة – “حماية المدنيين” و”بناء المؤسّسات” و”السلام الدائم” – لتبييض مسارٍ في جوهره استسلامي.
كيف يمكن الحديث عن سلامٍ عادل في ظل احتلال مُستمرّ واستيطانٍ متصاعدٍ وحصارٍ خانقٍ لغزة؟ كيف تُمنح الشرعية لمحتلّ يواصل التهجير والقتل والتطهير الديموغرافي؟ هذا السلام الذي تروّج له واشنطن وتل أبيب ليس سوى إخضاع وهيمنة على حساب العدالة.
الأخطر أن القمة قد تكون ذروة محاولات إعادة توجيه الغضب الشعبي وتحويله إلى سلوكٍ سياسي مرسوم سلفًا: نزع سلاح الفصائل مقابل وعودٍ غامضةٍ بالتعويض أَو ضماناتٍ دولية.
هذا السيناريو يعيدنا إلى تجارب مريرة حين خُدعت شعوبٌ وتركها حكّامها لمصائرها.
التحالف العربي الذي أُعطي غطاءً للعدوان على اليمن عام 2015 لم يواجه الاحتلال حين دعت الحاجة الحقيقية لإعادة فلسطين إلى الحِضن العربي؛ فهل نثق اليوم بنفس الفاعلين لقيادة “عملية سلام” تمنح الاحتلال ما لم يستطع انتزاعه بالقوة؟
الخطر هنا أوسع من فلسطين وحدها؛ أي مشروع يهدف إلى تجريد الشعوب من أدوات مقاومتها وتسليم رقابها لسياساتٍ خارجية قد يمتد ليطال دولًا عربية أُخرى لاحقًا.
من أخلى غزة وتركها تواجه مصيرها دون حماية قد يجد بلاده لاحقًا هدفًا لمشروعات شرعنة الضرب تحت ذرائع “الأمن” و”الاستقرار”.
لذلك يخشى الحكام المطبّعون الصحوةَ الشعبيّة أكثر من المخاطر العسكرية، لأن الوعي الجماهيري هو العامل القادر على قلب موازين القوى وإعادة الحق إلى أصحابه.
المقاومة ليست مُجَـرّد خيارٍ عسكريّ بل رمزٌ للكرامة وسندٌ للحق في مواجهة احتلال يجيد فنون القوة.
مجدها ينبع من أنها ولدت من رحم المعاناة، ومن أن الحق لا يُعطى بل يُنتزع.
لذا لن تُروى العطش الشعبي للعدالة ببيانات القمم ولا بصياغات اتّفاقاتٍ كتبت في غرفٍ مغلقة.
أي اتّفاق يشرعن الاحتلال ويحمل الضحية ثمنَ السلام لا يمكن أن يدوم، لأن سلامًا مبنيًّا على ظلمٍ لا يقبله الضمير ولا التاريخ.
على العرب الحقيقيين والأحرار، والمثقفين والفعاليات الشعبيّة، أن يجعلوا من هذه القمة محطةَ كشفٍ وحشدٍ لا محطةَ قبولٍ وتمرير.
يجب فضح بنود الصفقة قبل توقيعها وشرح عواقبها للشعوب بوضوحٍ تام.
الرهان الحقيقي ليس على بياناتٍ رمزية بل على وعيٍ جماهيري يرفض بيع القضية بأبخس الأثمان.
من خان فلسطين اليوم سيحاسبه شعبه غدًا، ومن باع الكرامة سيجد التاريخ لا يغفر ولا ينسى.
لن تنكسر عزيمة شعبٍ فلسطيني يرفض الاستسلام، ولن تُطفأ نار الكرامة التي أشعلتها التضحيات.
القمم ستمر والصفقات تُطرح، لكن الحقيقة باقية: لا سلام عادل دون عدالة، ولا شرعية لمن يمنح الشرعية للمحتلّ.
ومن يريد لشرم الشيخ أن تكون مسرحًا لدفن القضية فليعلَم أن التاريخَ يسجل، والشعوب تحفظ، واللحظة التي يُحاسب فيها الخائنون قادمة لا محالة.