مع عبقرية الرسول العسكرية (2)


بقلم / د. حمود الأهنومي

 

ركز السيد القائد حفظه الله في خطاب المولد الشريف المنصرم على إبراز الرسول مجاهدا ومقاتلا، وذكر عليه السلام أن “أهم وأعظم دورٍ للجهاد في سبيل الله تعالى، والتصدي للتحديات والأخطار التي استهدفت المسلمين، هو دور رسول الله “صلى الله عليه وآله”، الذي خاطبه الله بقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: الآية84]، وخاطبه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة: الآية73]، وخاطبه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: من الآية65]”.

 

يذكر السيد القائد عليه السلام في خطابات عديدة أنه على الرغم من المواصفات والمهارات العظيمة التي توفرت في رسول الله، ومنها جاذبيته وأخلاقه وما كان عليه من صفات كارزمية، ومهارات بيانية، وقيم أخلاقية، تقنع الكفار بأحقية ما يدعو إليه، إلا أنه كما ورد في الخطاب الأخير، لم تتركه كيانات الطاغوت والكفر، من مشركي العرب، ومن اليهود، ومن النصارى وشأنه، بل “اتجهوا لمحاربة الإسلام عسكرياً، وكانت البداية من قريش، الذين لم يكفهم ما فعلوه على مدى ثلاثة عشر عاماً من الصدِّ عن سبيل الله، ومحاربة الإسلام في مكة بالدعاية، والتعذيب، والترهيب، ومحاولة قتل رسول الله “صلى الله عليه وآله”، فبدأوا بإعداد العدة لشن الحرب العسكرية، والتحضير لهجومٍ عسكري، يستهدف الرسول “صلى الله عليه وآله” إلى المدينة المنوَّرة، وبتحريضٍ لهم، وتشجيعٍ لهم من قِبَل اليهود، فنزل قول الله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: 39-40]، فكان الجهاد في سبيل الله تعالى هو الطريقة المعتمدة، لدفع الأشرار، الطغاة، المعتدين، المجرمين، الذين يسعون إلى الحيلولة دون تحرر الأمة، وإلى منع المسلمين من الاستقلال، على أساسٍ من دينهم، وإيمانهم، وقيمهم، ومبادئهم”.

 

هنا يتبين أن الصراع أمر حتمي مع قوى الشرك والكفر؛ لأن دين الله بطبيعته المنحازة للمظلومين والمضطهدين لا يروق للطغاة والمستكبرين، ويشكل خطورة على المستبدين والمنحرفين والأنانيين، ويقضي على الطاغوت ويدعو إلى العبودية الخالصة لله تعالى، وهم من جانب آخر لا بد أن يتحركوا في مواجهة الدين الحق، والرسالات الإلهية، ولهذا فالصراع بين الحق والباطل أمر حتمي لا مناص منه ولا خيار.

 

وعندئذ كان لا بد من الدفاع باعتباره جزءا من فطرة القوانين الكونية والإنسانية؛ يقول السيد القائد: “أتى الأمر من الله تبارك وتعالى إلى نبيه “صلى الله عليه وآله” بالتحرك، ورفع راية الجهاد، كما قال تبارك وتعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:5-6]، فكانت غزواته والسرايا العسكرية، التي يبعثها في المهمات القتالية، قرابة ثمانين غزوةٍ وسرية، تصدى بها لمختلف الجهات المعادية للإسلام، والمتآمرة المحاربة للمسلمين، من مشركي العرب، ومن اليهود، ومن النصارى”.

 

ومن هنا يتضح أن بداية قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان دفاعيا، دلّ عليه قول الله تعالى: ({وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، وقوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39] كما تقدم.

 

وفي هذا السياق يمكن القول بأن الدفاع عن النفس، والذود عن الحمى، وصون الأرض والعرض قضية عقلية وشرعية وفطرية لا مراء فيها، ولا إشكال.

إنه أمرٌ يُحسِّنه العقل – بلغة أهل أصول الدين –باعتبار ملائمته للطبع.

وهو أمر يشترك فيه الحيوان مع الإنسان.

لاحظوا ..

أليست الدجاجة تقاتل بشراسة منقطعة النظير في الذود عن كتاكيتها الصغار؟!

والهر يتحول إلى أسد هصور حين يحاصر بالهجوم؟!

والقنفذ يحتمي بلباسٍ من الأشواك، ويتكوّر على نفسه ليحمي أجزاءه السفلية؟!

وبعض الحشرات والحيوانات تدافع عن نفسها بالتمويه وبتغيير الشكل واللون؟!

وبعضها تعمَد إلى إلقاء الرعب في الحيوانات المفترسة عن طريق نفخ نفسها، أو بالصفير؟!

وبعضها يدافع بالقرون؟!

وبعضها بالأنياب والفكوك السامة؟!

وبعضها بالمناقير أو المخالب أو الأشواك؟!

وبعضها بالرفس؟!

وبعضها بإفراز سائل غازي يتبخر بسهولة؟!

أليس منها ما يتمكن من إحداثِ صدماتٍ كهربائية لصعق العدو؟!

وهناك أنواع كثيرة .. ولها وسائل دفاعية مختلفة ومتعددة.

والخلاصة

أن هناك إجماعا بين الإنسان والحيوان وحتى بعض النباتات بوجوب الدفاع عن الذات ما أمكن، وبأنه أمر فطري وعقلي، وإن اختلفوا في كيفيته وبعض التفاصيل.

 

إن سنة التدافع سنة قرآنية، وهي سنة فطرية فطر الله خليقتَه عليها.

قال الله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251].

 

وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].

 

ووسائل الدفاع بالنسبة للإنسان كثيرة.

في بعض الحالات يعلمنا الإسلام أن يكون الدفع بالتي هي أحسن، وأنه هو الأفضل، والأجدى؛ قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون:96].

 

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].

المهم لا بد من الدفع والدفاع والتدافع والمدافعة والاندفاع نحو جبهات الشرف والرجولة.

وبما أن حالة الصراع قائمة وحتمية ولا يمكن لأحد أن ينجو منها؛ إذن لا بد من اتخاذ وضعية الدفاع والجهوزية التامة.

 

وعودة إلى العقل فإنه يحكُمُ بحُسنِ الدفاع باعتبارِه ملائما للطبع، ويستوي في هذا مع الحيوان، وباعتباره أيضا مما يُمْدَح به صاحبه في العاجل والآجل.

ثم جاء الشرع ليؤكِّد هذه المسألة ..

لماذا؟

لكي يتحقق التوازن في هذا الكون الذي به عماد استمرار الحياة.

لكي يحفظ دين الله، وتصان ملته.

لكي لا تهدم البيع والصلوات والمساجد.

لكي لا تفسد الأرض بالقضاء على الإنسانية وأخلاقها الفاضلة وقيمها النبيلة.

لكي لا تفسد الأرض بالظلم والطغيان.

ولهذا شرع الله القتال.

قتال المظلومين ضد الظالمين،

قتال المستضعفين ضد المستكبرين،

قتال الذين أخرجوا من ديارهم ضد المعتدين.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39].

بل إنه في حالة الدفاع يجب القتال وجوبا، ولا يجوز الاستسلام للعدو.

لا يجوز أن تستسلم للوحش أو الأسد فيأكلك، بل عليك أن تقاتله.

لا يجب عليك أن تهرب حتى من الثور إذا صال عليك، وإذا أحسست بخطره فاقتله.

هذه هي الحياة وهذه هي سننها.

في حالة كونك فردا .. وحين يهجم عليك سارق أو معتد فإنه يجب عليك أن تباشر الدفاع بما أمكنك، فإذا انتصرتَ فأنت محمود، وإذا غُلِبتَ فأنت معذور، (ومن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَنْ قُتِل دون عرضه فهو شهيد، …).

 

أما في حالة الأمة .. وحين يهجُم على مجتمعك كله، أو على أمتك كلها، عدوٌّ كافر، خبيثٌ، ومتغطرسٌ، ومتكبرٌ، ومعتدٍ، ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة.

 

فحين – لا سمح الله – ينتصر على الأمة فإنه سيسترقُّك، ويستعبدك، ويفتنك عن دينك الحق، إلى دينه الباطل، ويسيطر على حالك ومستقبلك ومستقبل عشرة أجيال من خلفك… ومثل ذلك بكل تلك الأمة ..

 

لكنك لأنك تعلم أنه عدو لله، كافر بما أنزل الله، ضال عن هداه، وكتاب الله يأمرك بقتاله، ويعظك دائما بفضيلة الجهاد له، والتصدي لغطرسته…

 

ففي هذه الحالة إياك إياك

ثم إياك إياك أن تتراجع عن مواجهة هذا العدو،

لأنك في مرحلة حاسمة وخطيرة، فإذا قصَّرْتَ فيما يجب عليك فإنك ستتحمل إثم حالتك، وحالات كل الأمم والأجيال القادمة التي تسببْتَ في نكبتها وهزيمتها بخذلانك وتراجعك.

 

بالطبع أنت لا تقاتل ذلك المرتزق من أبناء جلدتك لأنه يمشي في ركاب المعتدين .. لأنه ليس في العير ولا في النفير، فليس القرار قراره، ولا الخطة خطته، ولا التمويل ولا التسليح منه ولا له ، …

 

لهذا يجب عليك أن تكون من أهل الدفاع

وإذا لم تتحرك مدافعا

فإنك حينئذ أجبن من الدجاجة المستثارة،

وأقل بأسا من الهر المحصور،

وأهون عند الله وعند خلقه من تلك الحشرة المدافعة عن نفسها.

إنك في هذه الحالة ستكون خاسرا

ليس خاسرا في الدنيا فقط، ولكن خاسرا في الآخرة أيضا والعياذ بالله.

وكل ما أصابك من العدو حينئذ فإنه ليس إلا عقوبة،

والعقوبة لا أجر فيها، ولا تعويض.

لقد عجل الله لك ببعض العقوبة.

-(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ).

-(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).

-(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

-(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ).

-(وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

اللهم اجعلنا من الناجين من عذابك، المسارعين إلى طاعتك.

ولا تجعلنا أهون من دجاجة .. ولا أقل استبسالا من هر..

وصلِّ وسلِّمْ على سيدنا محمد سيد الورى .. وعلى أهل بيته سادة الحرب والوغى..