الزهراء.. وعيٌ يتجدّد في زمن الحرب الناعمة
عبدالمؤمن محمد جحاف
لم يكن بيانُ السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي -حفظه الله- بذكرى مولد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام مُجَـرّدَ مرور على مناسبة دينية فحسب، بل كان استدعاءً لرمز الطُّهر الإلهي في لحظة تتعرضُ فيها الأُمَّــة الإسلامية لهجمةٍ غير مسبوقة على هُــويتها وقيمها ووعيها.
فالبيان في اليوم العالمي للمرأة المسلمة بدا أقربَ إلى قراءةٍ عميقةٍ لواقع فقد البُوصلة، واستنهاضًا للوعي الأنثوي والإنساني والإيماني في وجه حرب تستهدف الإنسان قبل الأرض.
يضع السيد القائد الزهراء عليها السلام في موقعها الحقيقي: امرأة صنعت الوعيَ لا بالتاريخ فحسب، بل بالهداية ذاتها.
فالحديث النبوي عنها – كما يؤكّـد – يكشفُ عن قامةٍ إيمانية سامقة، وأخلاقٍ بلغت أعلى مدارج الإنسانية.
وفي هذا التوصيف إشارةٌ إلى أن استحضار الزهراء ليس ترفًا دينيًّا، بل ضرورة حضارية في زمن تتآكلُ فيه القيم وتتعرَّضُ فيه المرأة المسلمة لمحاولة نزعِها من جذورها.
فالمرأة اليوم – كما يشير – تُستهدَفُ من خلال ضرب قدوتها، وإقصاء النموذج المُلهِم الذي يضمنُ للهُــوية الإيمانية امتدادَها الطبيعي.
حين يوضح السيدُ القائد عن “الحرب الشيطانية الناعمة”، فهو لا يبالغ ولا يكرّر.
بل يقدِّمُ توصيفًا دقيقًا لحرب تُصنَعُ خارجَ الصوت، وتُخاضُ عبر الثقافة والإعلام والأزياء واللغة والولاءات.
إنها حربٌ تسبق الصواريخ، وتستهدفُ الروحَ والمفهومَ والانتماء.
هذه الحربُ نجحت في إفراغ الأُمَّــة من محتواها الإنساني والإسلامي.
لم تعد المشكلة في ضَعف الجيوش، بل في ضَعف البصيرة.
لم يعد الخطر في قوةِ العدوّ فحسب، بل في قبولِ الأُمَّــة بالهيمنة والتبعية وكأنَّها قدرٌ لا يُرد.
ولعل أقسى الفظائع المذكورة في بيان السيد القائد تلك التي تتعلَّقُ بالجرائم الإسرائيلية في فلسطين، حَيثُ يشير إلى آلاف النساء المسلمات اللاتي قتلهن الصهاينة: حوامل، مسنّات، صغيرات.. وإلى جرائم الاغتصاب وانتهاكات الكرامة الإنسانية.
لكن المفارقة العجيبة تحت ضوء السؤال ليست في بشاعة الجريمة فحسب، إنما في بشاعة الصمت.
فبينما تحَرّكت شعوب العالم – من غير المسلمين – بوازع إنساني صرف، كانت معظم الأنظمة العربية والإسلامية أشبهَ بمن تعمَّد أن يُدِيرَ ظهرَه للدم وللزهراء وللإنسان.
يذهب البيان أبعدَ من الإدانة، ليكشف عن السقوط الأخلاقي المريع لبعض الأنظمة التي لم تكتفِ بالسكوت، بل قدمت العونَ المادي والإعلامي والاستخباراتي للكيان الإسرائيلي.
وهذا ليس مُجَـرّدَ خيانة فحسب، بل هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لأُمَّةٍ فقدت وعيَها وقِيَمَها.
يطرُحُ السيدُ القائد فكرةً صادمة: العدوُّ لم يعد يكتفي باستباحة الأُمَّــة، بل يعملُ على إرغامها على القبولِ بهذه الاستباحة.
والأسوأُ أن كَثيرًا من الأنظمة والنخب باتت فعلًا تقبَل، بل تلوم من يرفض.
إنه انقلاب كامل في الوعي، حَيثُ يتحول الحق إلى تهمة، والكرامة إلى عبء، والمقاومة إلى “مشكلة”.
هذه النقطة تحديدًا تأتي كصرخة في العمق: الأزمة ليست في قوة العدوّ، بل في هشاشة الداخل، وفي أن “الغثائية” التي تحدث عنها النبي أصبحت واقعًا ملموسًا.
خاتمًا: الزهراء ميزان الوعي.. وليست مُجَـرّد ذكرى
من خلال هذا البيان، يعيد السيد القائد وضع الزهراء في مكانها الصحيح: ديباجة نهضة، لا بطاقة تهنئة.
فمولد الزهراء هو مناسبة لاستعادة مركزية القيم في مواجهة الانحراف، واستحضار القُدوة في زمن تسعى فيه الحرب الناعمة لتبديل الوجدان قبل تبديل الواقع.
في المحصلة، يقدم البيان مقاربة فكرية تقول إن معركة الوعي اليوم لا تقل عن معركة الميدان، وأن الأُمَّــة لن تستعيد قوتها إلا حين تستعيد بصيرتها، ولن تستعيدَ بصيرتها إلا إذَا عادت إلى قدواتِها الأصيلة.. والزهراء في طليعتها.