السلام الترامبي.. مشروع الهيمنة الأمريكي وهدنة الخداع في غزة
السلام الترامبي.. مشروع الهيمنة الأمريكي وهدنة الخداع في غزة
منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما سماه بـ”صفقة القرن”، تحوّل مفهوم “السلام” في قاموس واشنطن إلى أداةٍ لتثبيت الهيمنة وشرعنة الاحتلال.. لم يعد الحديث عن حلول عادلة أو تسويات متوازنة، بل عن صفقاتٍ تجارية تُفرض على الشعوب تحت تهديد العدوان والحصار، وتُقدَّم على أنها “سلام واقعي”.
لكن واقع الميدان، من غزة إلى لبنان، أثبت أن هذا السلام الترامبي لم يكن سوى قناعٍ جديدٍ للحرب، ووسيلة لإخضاع المقاومة بعد أن فشلت أمريكا والعدو الصهيوني في كسرها بالنار والدمار.
ومع إعلان الهدنة الأخيرة في غزة، عادت الأسئلة إلى الواجهة: هل انتهت الحرب فعلاً، أم أننا أمام مرحلة جديدة من العدوان، تُدار هذه المرة بأدوات سياسية واقتصادية بدل القنابل والطائرات؟
الترامبية: سلام بالقوة.. وهيمنة بالمصطلحات
لم تكن سياسات ترامب خروجًا عن النهج الأمريكي بقدر ما كانت تجسيدًا فاضحًا له. فالرئيس الذي رفع شعار “أمريكا أولاً” لم يبتدع عقيدة جديدة، بل أعاد صياغة المشروع الأمريكي بلغة المال والمصلحة، جاعلاً من كيان العدو الصهيوني حجر الزاوية في استراتيجيات بلاده في الشرق الأوسط.
فمن “صفقة القرن” إلى ما يسمى بـ”اتفاقات إبراهام”، رسم ترامب ملامح ما يمكن تسميته بـ”السلام بالقوة”، القائم على فرض الأمر الواقع وإلغاء مفاهيم العدالة والسيادة والكرامة، ليصبح الاحتلال “واقعًا طبيعيًا”، والمقاومة “إرهابًا يجب تجفيفه”.
إنّ هذا السلام، في جوهره، سلامٌ استعماريّ مصلحيّ يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الشعوب، وليس إنهاء الصراع. فهو مشروع “تدجينٍ ناعم” يراد من خلاله تحويل الأمة العربية والإسلامية إلى سوقٍ للهيمنة الأمريكية وحاضنةٍ لأمن الكيان الصهيوني، عبر أدوات سياسية واقتصادية ودعائية ضخمة.
أدوات السلام الأمريكي: من التطبيع إلى التطويق
أدركت واشنطن أن الحرب المباشرة لم تعد مجدية، وأن مواجهة محور المقاومة عسكريًا تعني فتح جبهات لا يمكن السيطرة عليها، لذلك لجأت إلى “الحرب الناعمة” تحت عنوان “السلام”.
ومن هنا جاءت ما يسمى بـ”اتفاقات إبراهام”، وصفقات التطبيع، والمشاريع الاقتصادية المشتركة، كوسائل لتكريس التفوق الصهيوني وجعل الكيان مركزًا إقليميًا متحكمًا في الطاقة والتجارة والأمن.
لكن ما تغفل عنه واشنطن هو أن هذا “السلام” لا يقوم على إرادة الشعوب، بل على إملاءات الأنظمة التابعة، وأنه عاجز عن تغيير الوعي الجمعي الذي يرى في الكيان الصهيوني عدوًّا وجوديًا لا يمكن التعايش معه.
فما يُقدَّم اليوم كـ”حل سياسي” ليس سوى إعادة إنتاجٍ للاحتلال بطرق جديدة، ومحاولة لتحويل المقاومة إلى حالة معزولة، تُحاصر بالمال والوعود، بعد أن عجز العدو عن هزيمتها في الميدان.
هدنة غزة.. سلامٌ مزيّف بعد حربٍ خاسرة
في هذا السياق، تأتي الهدنة الأخيرة في غزة كحلقةٍ من حلقات مشروع “السلام الترامبي”.
فبعد عدوان غاشم وحربٍ مدمّرة عجز العدو الصهيوني فيها عن تحقيق أي من أهدافه، تدخلت واشنطن لتفرض على الأطراف اتفاقًا لوقف إطلاق النار، ليس حرصًا على أرواح المدنيين، بل لإنقاذ الكيان من الانهيار السياسي والعسكري.
فالاتفاق لم يكن خيارًا “إسرائيليًا” بل إملاءً أمريكيًا هدفه وقف النزيف ومنح نتنياهو فرصة للبقاء في الحكم.
لكن سرعان ما تكشّف زيف هذا السلام؛ إذ تواصلت الخروقات الصهيونية، وعادت الطائرات لتقصف القطاع بحجة “الردع الوقائي”، لتتحول الهدنة إلى مجرد غطاء لعدوانٍ مستمر بصيغة جديدة.
نتنياهو بين ضغط الداخل ووصاية واشنطن
يحاول مجرم الحرب نتنياهو من خلال “السلام المؤقت” تحقيق توازنٍ صعب بين ضغوط اليمين المتطرف الذي يرى الهدنة ضعفًا، وبين إملاءات واشنطن التي تفرض عليه التهدئة لحماية صورتها كراعٍ للاستقرار.
لكن ما يغفل عنه نتنياهو هو أن هذا التوازن هشّ، وأنّ مستوطنو الكيان باتوا يرون في حكومته رمز فشلٍ وخداعٍ سياسيّ بعد أن تهاوت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
فاستطلاعات الرأي داخل الكيان أظهرت أن أكثر من ثلث المستوطنين يرون أن “إسرائيل” هُزمت في الحرب الأخيرة، وأن السلام لم يجلب لهم سوى المزيد من القلق والذلّ.
المقاومة.. وعي استراتيجي يتجاوز فخّ الهدنة
في المقابل، تعاملت المقاومة الفلسطينية بوعيٍ عالٍ مع هذا المشهد المركّب، فأدركت أن “الهدنة” ليست نهاية المعركة بل فصلٌ جديد منها.
اختارت المقاومة الصبر الاستراتيجي كتكتيكٍ مدروس، فاحتفظت بحق الردّ، وركّزت على فضح خروقات العدو أمام الوسطاء والمجتمع الدولي، لتؤكد أن الكيان لا يحترم أي التزام.
أما في الميدان، فقد رسّخت المقاومة معادلة الردع من خلال تطوير قدراتها وتوسيع دائرة تحالفاتها ضمن محور المقاومة، ما جعل العدو يحسب ألف حساب قبل أي مغامرة جديدة.
غزة اليوم لا تعيش سلامًا، بل مرحلة استنزافٍ محسوبة، فيها تتقاطع الحسابات الدولية والإقليمية، لكن فيها أيضًا وعيٌ مقاومٌ لا يُخدع بالوعود ولا يُغريه الحديث عن “الإعمار” مقابل الصمت.
الفشل الأمريكي في تدجين الأمة
تتوهم واشنطن أن بإمكانها إعادة صياغة وعي الشعوب كما تشاء، لكن الحقيقة أن مشروعها يواجه جدارًا صلبًا من الرفض الشعبي والإيماني.
فالشعوب الحرة من اليمن إلى العراق ولبنان وإيران وفلسطين، ترى في “السلام الأمريكي” استسلامًا للهيمنة، وترى في المقاومة طريق العزة والكرامة.
لقد فشلت أمريكا في كسر محور المقاومة بالسلاح، وهي اليوم تفشل في إخضاعه بالسلام، لأن هذا المحور ينطلق من منظومة ومبادئ إيمانية وثقافية لا تقبل أنصاف المواقف ولا أنصاف الحلول.
سلام القوة لا يهزم وعي الشعوب
إنّ ما يسمى بـ“السلام الترامبي” ليس سوى مشروع استعماريّ جديد يرتدي ثوب الدبلوماسية، لكنه يحمل في جوهره روح العدوان.
غزة اليوم تمثل المرآة التي تنكشف فيها أكاذيب واشنطن و”تل أبيب”، فالمقاومة التي صمدت أمام أعتى الآلات الحربية لن تُخدع باتفاقٍ يراد منه إسكات البنادق لتهيئة الأرضية للهيمنة.
إنّ الشعوب التي قدّمت التضحيات الكبرى لا تبحث عن سلامٍ تحت حراب المحتل، بل عن تحريرٍ كاملٍ وعدالةٍ حقيقية.
ومادام في الأمة رجال يؤمنون بخط المقاومة ونهج التحرر، فلن يكون للسلام الأمريكي مكان، ولن يُكتب لصفقاته البقاء.
موقع 21 سبتمبر.