غزة بين القتل قصفاً والقتل تجويعاً
غزة.. ذلك الشريط الضيق من الأرض، ممتدة كشامة تزين جبين العالم، تعاني من أكثر من الحرب. إنها اليوم تتلوّى بين فكّي المجاعة والرصاص، وبينما بينما الأرض تنزف، فإن العالم يكتفي بالنظر من خلف الشاشات.
رغم إعلان الأمم المتحدة رسميًا تفشي المجاعة، إلا أن شيئًا لم يتغير. هذا الإعلان الذي يفترض أن يُحرّك ضمير العالم، لم يُحدث سوى ضجيج عابر في نشرات الأخبار. الموت لا يهدأ. والعدو الإسرائيلي مستمرٌ في منع الغذاء، والماء، والدواء، في جريمة لا تحتاج إلى شهود، بل إلى قلوبٍ تنبض، وإنسانية لا تتعثر بالمصالح.
الدكتور منير البرش، أحد شهود الحقيقة، يُحذر من وفيات جماعية، خاصة بين الأطفال والمرضى. أكثر من 20 ألف طفل بحاجة إلى علاج مستمر، وأعداد الوفيات ترتفع يومًا بعد يوم، كأرقامٍ نازفةٍ لا تجد من يوقف سيلها. المجاعة هنا ليست فقط نقصًا في الطعام، بل اغتيال متعمد لحق الحياة.
وفي الممرات الباردة للمستشفيات، حيث لا كهرباء، ولا أدوات تشخيص، ولا دم يكفي للنقل، يرتفع النداء: إنهم يحتاجون إلى وحدات دم، ليس للترف، بل لإبقاء الأرواح حيّة. المشافي نفسها تنزف، جدرانها مثقوبة بالقصف، وقلوب طواقمها مثقوبة بالعجز. يضيف البرش: “العدو الإسرائيلي يواصل منع دخول الأغذية والمكملات الغذائية والأدوية، رغم أن المجاعة في القطاع أُعلنت من قبل أكبر هيئة أممية في العالم”، مؤكدًا أن ما يجري هو حصار شامل على المريض المجوع الذي يواجه الموت في ظل غياب أي تحرك عاجل لإنقاذه.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، اليوم الخميس، وصول 71 شهيدًا و339 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية، جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وقالت الوزارة في بيان لها: إن ما وصل إلى المستشفيات خلال الـ24 ساعة الماضية من شهداء المساعدات 22 شهيدًا و203 إصابة، ليرتفع إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات إلى 2,180 شهيدًا وأكثر من 16,046 إصابة.
كما سجلت مستشفيات قطاع غزة، خلال الساعات الـ24 الماضية، 4 حالات وفاة جديدة نتيجة المجاعة وسوء التغذية بينهم طفلان، ليرتفع العدد الإجمالي إلى 317 حالة وفاة، من ضمنهم 121 طفلًا، وفق البيان.
وذكرت أن حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس 2025 حتى اليوم بلغت 11,121 شهيدًا و 47,225 إصابة. وبذلك ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 62,966 شهيدًا و 159,266 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.
هل رأيتم جريمة تُرتكب على الهواء مباشرة، دون أن يُوقفها أحد؟!
في غزة، يُقتَل الصحفي لأنه قال الحقيقة، ويُقتَل الطبيب لأنه تمسّك بضميره. تُقصف المستشفيات، تُدمَّر المدارس، يُطرد الأطفال من مقاعدهم، وتُخرَج المدارس من السجلّ التعليمي، كما تُمحى المدن من الخرائط. 18,489 طالبًا استشهدوا حتى الآن. أيّ ذاكرة ستبقى إن انطفأ جيلٌ بأكمله؟
“لا مكان آمن في غزة، لا أحد آمن”، قالها المفوّض الأممي فيليب لازاريني، لكن لم يسمعه أحد بما يكفي. مصير الفلسطينيين في قطاع غزة بات بين القتل قصفا من الجيش الإسرائيلي والقتل تجويعا جراء الحصار.
وقال لازاريني بعد مرور ما يقرب من 700 يوم منذ بدء الحرب: “لا يزال الناس يُقتلون ويُصابون مع تكثيف الجيش الإسرائيلي وتوسيعه لعملياته”. وأضاف: “تُقصف المستشفيات والمدارس والملاجئ ومنازل الناس يوميا. ويقتل العاملون في المجال الصحي والصحافيون والعاملون في المجال الإنساني على نطاق لم يشهده أي صراع آخر في التاريخ الحديث”.
ومستنكرا حجم وتنوع الفظائع، أردف لازاريني: “وكأن كل هذا لا يكفي، يُهدد الجوع الجميع في غزة بموت بطيء وصامت، أو بالموت وهم يبحثون بيأس عن الطعام”.
الجريمة تتسع، والوجع يتضاعف، والموت ينتشر كظلٍّ لا فكاك منه. إنه الموت البطيء، الصامت، ذاك الذي لا ضجيج فيه إلا بكاء الأمهات، وصمت الأجساد الصغيرة التي لفظت أنفاسها الأخيرة، دون حتى أن تتذوّق الحليب.
أكثر من 1.1 مليون طفل في غزة يعانون من صدمات نفسية، وأجسادهم تتقلص مع كل وجبة مفقودة، وكل ليلٍ باردٍ بلا سقف. صورهم الهزيلة، عظامٌ بارزة، وعيونٌ ذابلة، باتت تشكّل وصمة عار على جبين البشرية.
وذكر المدير الإقليمي للمناصرة والإعلام في اليونيسف للشرق الأوسط وشمال أفريقيا عمار عمار، في تصريح صحفي، أن القصف الإسرائيلي المستمر على غزة خلّف -علاوة على القتل والإصابات- صدمات نفسية وعاطفية يصعب علاجها لدى نحو 1.1 مليون طفل، ما ألحق أضرارًا جسيمة بتطورهم النفسي.
وقال: “خلال هذه الفترة، انتشرت انتهاكات خطيرة على نطاق واسع، وأصبح حرمان الأطفال من المساعدات، والتجويع، والنزوح القسري المستمر، وتدمير المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والمنازل، حقيقةً يومية يعيشها الأطفال”.
وتابع: “ما نشهده في غزة ليس مجرد حرب ضد الأطفال، بل تدمير الحياة نفسها”، موضحا أن أكثر من نصف مليون إنسان في غزّة وقعوا بين براثن التجويع، وإن الوفيات جراء ذلك كان بالإمكان تجنّبها.
وشدد على أن سوء التغذية بين الأطفال يتصاعد بمعدل كارثي، قائلًا: “في تموز/ يوليو وحده تم توثيق معاناة أكثر من 12 ألف طفل من سوء التغذية الحاد، وقرابة طفل من بين كل أربعة يعاني من سوء التغذية الحاد الشديد، الذي يعتبر الشكل الأكثر فتكًا، ويخلف عواقب مدمرة على الأطفال، على المديين القريب والبعيد”.
وعلى بعد بضعة كيلومترات، يقف “العالم المتحضّر”، يُقيم مؤتمرات عن الأخلاق، يرفع شعارات الحرية والعدالة، بينما أطفال غزة يُدفعون إلى القبور. حتى المساعدات حين تأتي تُلقى من السماء، كما يُلقى الطعام للحيوان، لا ضمان لوصولها، ولا نظام لتوزيعها، وسط جحيمٍ من القصف والنزوح والتجويع.
ويسجل يوميا قرابة 100 شهيد وأكثر من 600 إصابة جراء الغارات الإسرائيلية على أرجاء متفرقة من قطاع غزة.
وزارة الصحة في غزة وجهت نداءً عاجلاً إلى جميع الجهات المعنية لتعزيز أرصدة وحدات الدم ومكوناته في مستشفيات القطاع، مع ارتفاع أعداد الإصابات جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 23 شهرًا.
وقالت الوزارة في بيان لها: إن بنوك الدم في المستشفيات تُعاني من نقص حاد وخطير في وحدات الدم ومكوناته. مؤكدة أن الاحتياج اليومي من وحدات الدم ومكوناته يزيد عن 350 وحدة دم. وأشارت إلى أن نوعية الإصابات الخطيرة التي تصل للمستشفيات تتطلب وحدات إضافية من الدم لإنقاذ الحياة. وأكدت تراجع مصادر تعزيز أرصدة وحدات الدم ومكوناته، بما فيها حملات التبرع المجتمعية، نظرا لتفشي المجاعة وسوء التغذية.
جباليا، بيت لاهيا، بيت حانون، مدينة غزة، كلها تحوّلت إلى أطلال. منازل أصبحت أكوام ركام، وناسها إما شهداء أو نازحون أو مفقودون تحت الأنقاض. المشاهد من الجو تُظهر مدينة بلا ملامح، سوى رماد وسواد وخيام مهترئة تسكنها الكرامة الجريحة.
مشاهد التقطت من طائرة كانت تلقي مساعدات على قطاع غزة، كشفت حجم الدمار الكبير الذي خلّفته حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وتُظهر اللقطات من الجو مدى الخراب الواسع في شمال قطاع غزة، حيث لم يبقَ في منطقتي بيت حانون وبيت لاهيا تقريبًا أي مبنى قائم. ووفقًا للمشاهد بدت منطقة جباليا وقد تحوّلت إلى كتلة رمادية بفعل الدمار، في ظل غياب أي مظاهر للحياة. وفي مدينة غزة، تكشف اللقطات عن مبانٍ متضررة بشكل كبير، إلى جانب مئات الخيام التي تأوي فلسطينيين نزحوا قسريًا من جراء الغارات الإسرائيلية.
هكذا أدار العالم وجهه وأغمض عينيه عمدًا. لكن غزة لا تستطيع النوم، ولا يمكنها أن تغمض عينيها عن أبنائها. فهي ترى الموت بألف شكل، وتعيشه ألف مرة في اليوم. هي تنزف، لكنها لا تستسلم. نداء غزة لا يحتاج إلى كلمات كثيرة، بل إلى ضمير حيّ. فمن لا يسمع بكاء الأطفال الآن، لن تُجديه دموع الندم غدًا.