ما الذي سيغيره إعلان الأمم المتحدة انتشار المجاعة في غزة؟
تقرير | وديع العبسي
تأخَر إعلان الأمم المتحدة عن المجاعة في غزة، لكنه وصل، إنما ليس المهم أن تخرج أكبر منظمة دولية -تمثل مظلة لكل دول العالم- بهذا الإعلان، إذ قد سبقه الكثير من التصريحات والبيانات المؤكدة بأن الكيان يستخدم التجويع كسلاح حرب، والرافضة انتهاكاته للقانون الدولي الإنساني. وتحدثت بهذا الشأن المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، كما تحدث به مقرروها ومراقبوها وكثير من مستوياتها التنظيمية، وإنما المهم في هذا الإعلان هو ما الذي سيتبع هذا الإعلان لإنقاذ الشعب الفلسطيني، ومعاقبة الكيان الصهيوني المتسبب بهذه الجريمة.
الإقرار بالمجاعة المؤلمة الحاصلة في غزة لم يعد قابلا للجدال عقب هذه المشاهد التي وصفها مراقبون بـ”المفجعة”، وعلى إثرها خرجت الكثير من التظاهرات حول العالم ترفض هذا الاستخفاف بحق الإنسان في الحياة، وهذا التجاوز لقواعد الحروب، واستخدام التجويع كسلاح حرب يستهدف المدنيين بما فيهم الأطفال والنساء والعجزة.
قبل ثلاثة أشهر تقريبا كشف تقرير للأمم المتحدة بأن الوضع الغذائي في قطاع غزة بلغ المرحلة الخامسة، أي (كارثية) وفق تصنيف “آي بي سي” (IPC) العالمي لانعدام الأمن الغذائي. وفي هذا السياق قال مايكل فخري، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، لصحيفة الغارديان البريطانية إن: “إسرائيل تُجوّع غزة، إنها إبادة جماعية، إنها جريمة ضد الإنسانية، إنها جريمة حرب”.
وكي لا يصير مثل هذا الإعلان مجرد محاولة تخفيف حالة الاحتقان لدى أحرار العالم والرافضين لمنهجية الإبادة الصهيونية التي تمارس أمام العالم في غزة من سلبية الأمم المتحدة تجاه ما يحدث، من الطبيعي أن يتبعه تحرك عملي عاجل وحازم، وإن استدعى الأمر تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لإجبار العدو الإسرائيلي على وقف العدوان، ورفع الحصار، وفتح المعابر الإنسانية، وضمان وصول الغذاء والدواء والإمدادات الأساسية، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
يؤكد المقرر الأممي الخاص بالفقر المدقع “أوليفييه دي شاتر” بأن “التجويع استراتيجية تنتهجها إسرائيل لإفراغ القطاع من ساكنيه، وتهجيرهم قسرياً”، وإن جنود الاحتلال ومنتسبي “مؤسسة غزة الإنسانية” “يقتلون الأبرياء من طالبي المساعدات”، وقال دي شاتر: ما يعيشه القطاع مجاعة متعمدة ومحسوبة جراء “منع إسرائيل دخول المساعدات للقطاع منذ مارس الماضي”، معتبرا ما يحدث من قتل وتجويع “عار على جبين الإنسانية”. وأكد بأن “على المجتمع الدولي عزل إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها”.
في هذا الوقت أيضا أكد برنامج الأغذية العالمي بأن هناك تسارعاً في مؤشرات المجاعة في غزة وأن “الدعوة إلى التصرف اليوم أمر بالغ الأهمية”. يقول البرنامج إن “إعلاننا المجاعة في غزة تضمن توصيات بإجراءات ملموسة يجب اتخاذها، ونأمل أن يتم التعامل معها بجدية”. نغمة التمني هنا يخشى المراقبون أنها ستقف بالفعل المفترض القيام به عند هذا المستوى من الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المنظمة الدولية.
سيظهر من يقول إن الأمم المتحدة لن يكون بيدها فعل شيء أكثر من الكلام، وإذا صح ذلك وعدمت أي طريقة للخروج بإعلانها إلى حيّز الانتصار للحقوق الإنسانية المنتهَكة على يد الصهاينة في غزة فما الجدوى من استمرار بقاء هذه المنظمة؟! وإذا لم يكن بمقدورها تحويل رفضها وإدانتها لمثل هذه الجرائم إلى فعل يحافظ على القوانين والأعراف الدولية، فما الذي يمكنها العمل عليه؟! يؤكد مدير عام مؤسسة الحق الفلسطينية شعوان جبارين أن هذا الأمر يمثل “امتحانًا أخلاقيًا وقانونيًا وإنسانيًا واضح المعالم”.
اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن “المجاعة في غزة اتهام أخلاقي وفشل للبشرية نفسها، ولا تقتصر على الغذاء فحسب، بل هي انهيار متعمد للأنظمة اللازمة لبقاء الإنسان”، ويؤكد غوتيريش بأنه “لا يمكن السماح لهذا الوضع في غزة بالاستمرار دون عقاب”.
وهذا التعالي لنغمة التنديد، والتأكيد على وجوب معاقبة الكيان الإسرائيلي المارق، يكاد يصير عاراً على الأمم المتحدة ذاتها إذا لم تتحرك ووفق ما توجبه القوانين الدولية، لتلعب دورا محرضا وضاغطا للمجتمع الدولي، من أجل التحرك وإنقاذ قواعد التعايش الإنسانية والأخلاقية من بطش كيان الاحتلال. ويحذر مدير عام مؤسسة الحق الفلسطينية من أن الإعلان “سيظل حبراً على ورق ما لم يُترجم إلى خطوات عملية عاجلة تضع حدًا للمأساة الإنسانية المستمرة”.
الإعلان عن المجاعة ليس كافيا، ولا معنى له إذا لم يمثل قاعدة للعمل عليها، وهي مسألة تتطلب الشجاعة للتمرد على الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي، خصوصا وأن الإعلان كان بذاته فعلا قانونيا، وغير مخالف لدور المنظمة الدولية كما حاولت “إسرائيل” إشاعته. تقول المنظمة الدولية للاجئين إن “منهجية إعلان المجاعة بغزة متوافقة تماماً مع الإرشادات الأممية خلافا لادعاءات إسرائيل”. وتؤكد منظمة اللاجئين أن “بيانات إسرائيل بشأن إعلان المجاعة في غزة، حملة تضليل مدبرة وليست قراءة خاطئة بحسن نية”.
وبموجب المرجعيات فإن الأطر القانونية الدولية جرّمت سياسة التجويع في الحروب، وأبرزها: اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، اتفاقية جنيف الرابعة (1949) وتحظر استهداف المدنيين بحرمانهم من المواد الضرورية لحياتهم، البروتوكول الإضافي الأول الصادر عام 1977 ويؤكد على حظر استخدام التجويع سلاحا في النزاعات الدولية المسلحة، البروتوكول الإضافي الثاني وينص على حماية المدنيين من آثار النزاعات غير الدولية بما في ذلك منع استخدام سلاح التجويع ضدهم، القانون الدولي العرفي ويحظر استخدام التجويع ضد السكان المدنيين في جميع أشكال النزاعات المسلحة سواء كانت دولية أو غير دولية، القرار 2417 الذي تبنته الأمم المتحدة والذي “يدين تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب”. كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 على أن تجويع المدنيين عمدا عبر “حرمانهم من العناصر الأساسية لبقاء حياتهم، بما في ذلك تعمد عرقلة إمدادات الإغاثة”، يُعد جريمة حرب.
تعد المجاعة واحدة من المظاهر المفجعة للحروب حين يُلجأ إلى استخدام التجويع كسلاح حرب، على أن هذا السلاح يصير أكثر دناءة عندما يستهدف مدنيين غير منخرطين في الحرب فيموت بسببه الأطفال والنساء، وعندما يكون الموقف الدولي أقرب إلى المتواطئ أو المتجاهل كما هو الحال لما يحدث في قطاع غزة. وكان أول من استخدم هذا السلاح غير الأخلاقي رائدة الانتهاكات وصاحبة السبق في ابتداع أشكال الإجرام أمريكا عام 1863 في الحرب الأهلية، حينها أباحت استخدام التجويع للضغط على العدو في الحرب، ثم انتهجتها القوى الاستعمارية والإمبريالية عموما في القرن العشرين. وقال الرئيس أبراهام لينكولن: “من المشروع تجويع العدو المتحارب، سواء كان مسلحا أو غير مسلح”، وأشار لينكولن إلى أنه “من المشروع تجويع العدو المتحارب، سواء كان مسلحا أو غير مسلح”، بهدف تسريع استسلامه، ما يعني أن السياسة الأمريكية كانت ولا زالت تبيح استخدام التجويع للضغط على العدو في الحرب.