الرسول محمد (ص) ومهمة رفع الإنسان من وحل الجهل إلى معارج الحكمة


لم يكن العرب قبل البعثة المحمدية سوى أمة تائهة في صحراء التيه الروحي، أمة تنوء بثقل الخرافة، وتغرق في مستنقع الوثنية، وتمزقها الحروب القبلية، فلا جامع يوحدها، ولا رسالة تسمو بها، ولا مشروع ينهض بها. كانوا يعيشون ضلالاً مبيناً كما وصفه القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، ضلال جعلهم يقدّسون الحجر الذي نحتته أيديهم، ويذبحون له القرابين، ويؤمنون أن في الصنم نفعاً أو ضراً، بينما هم غارقون في الجهل والفوضى والعداء.
كانت المرأة عند العرب عاراً، والطفلة البريئة تُدفن حية تحت الرمال، والرحمة تكاد تُمحى من القلوب. أمة يقتل بعضها بعضاً لعقال بعير أو على نزاع ضئيل، يأكلون الميتة، ويقتتلون عشرات السنين لأتفه الأسباب.
وهَكذا كان العربي الذي ينظر إلى واقع الحياة من حوله نظرةً سخيفةً تعتمدُ الخرافة ونظرة زائفة لا تستند إلى الحقيقة، ولا إلى الوعي، كان متخبطاً في واقع الحياة، بهذه النظرة يتعاطى مع كُلّ ما حوله، ينظر إلى المرأة نظرة احتقار بالغة، ينظر لها على أنها مجرد سوأة وعار، فكان أحدهم كما حكى القُــرْآن الكريم، (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)، يقتل ابنته وهي طفلة في منتهى الصغر، في مقام يستجلب من الإنْـسَـان ويكسب من الإنْـسَـان عاطفتَه ومحبته، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ)، يَأكُل الميتة، يتناحر الجميع على أتفه الأسباب وأبسط المسائل، فيقتتلون عشرات السنين، ليس لهم هدف في الحياة ولا مشروع في الحياة، كُلّ واقعهم عبارة عن ضياع بكل ما تعنيه الكلمة.
أما الواقع العالمي المحيط بهم، فكان أسوأ حالاً: إمبراطوريات متوحشة، تحكمها شريعة الغاب، حيث يفتك القوي بالضعيف، وتنعدم العدالة والرحمة. كان العالم كله في ظلام روحي دامس، ينتظر قبس النور.

الرسول وتغيير الواقع

وفي قلب هذا الظلام، بعث الله رسوله محمداً صلوات الله عليه وعلى آله رحمة للعالمين. حمل القرآن نوراً وهاديا، وجاء برسالة الخلاص، ليعيد للإنسان إنسانيته، ويزكي نفسه، ويرفعه من وحل الجهل إلى معارج الحكمة والإيمان. لم يكن الأمر يسيراً، فقد واجه الرسول صلوات الله عليه وآله أمة غارقة في عاداتها الجاهلية، متشبثة بخرافاتها، لكنه بصبره وجهاده وتعاليم القرآن استطاع أن يغيّر ملامح الواقع، وأن يصنع من العربي الجاهل أمة مؤمنة موحدة.
ذلك البدوي الذي كان يسجد للحجر ويئد ابنته صار رجلاً موحداً لله، يحمل في قلبه رحمة وفي عقله حكمة، ينهض برسالة السماء، ويتحرك لإقامة العدل ونصرة الحق. والأمة الممزقة المقتتلة تحولت إلى أمة واحدة، اجتمعت على كلمة سواء، ورفعت راية التوحيد، وانطلقت تحمل مشعل النور إلى العالمين.
لقد كان جوهر التغيير الذي أحدثه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله  تغييراً في الإنسان ذاته: فكره، قلبه، روحه، سلوكه. فالقرآن أنزل ليزكي النفوس أولاً: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾. وهنا تكمن معجزة الرسالة؛ أنها لم تقتصر على تغيير الطقوس أو المظاهر، بل أعادت تشكيل الإنسان من الداخل، فحوّلته من أداة هدم إلى منبع بناء، من كائن غارق في الظلام إلى روح مشرقة بالنور.
لقد أخرج الإسلام أمة من ركام الخرافة والعداء إلى أمة الكتاب والحكمة. أمة تبصر بنور القرآن، وتحكم بالعدل، وتعيش الحكمة قولاً وفعلاً وموقفاً. إنها النقلة الكبرى التي شاءها الله: من أمة بلا مشروع ولا قيم، إلى أمة حملت أعظم مشروع إنساني في التاريخ، رسالة الهداية والرحمة للعالمين. وما كان ذلك إلا فضل الله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

مهمة التغيير ليست بالأمر السهل

لم يكن بالشيء السهل ولا بالشيء البسيط الذي تمكّن به الرَّسُــوْلُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَـى آلِــهِ من تغيير هذا الواقع، تَحَـرّك يبلّغُ رسالات الله منذراً ومبشراً وهادياً وصابراً على الناس ومحتسباً في ذلك، بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى، بآيات الله البينات، حتى غيّر  النظرة، والروحية، و التفكير السطحي والساذج الذي كان يحكُمُ الإنْـسَـان آنذاك، فكانت حركة النبي صلوات الله عليه وَعَلَـى آلِــهِ متجهةً إلى هذا الإنْـسَـان الجاهل الغبي المتخلف، لتغيير فكره ونظرته الساذجة، لتزكية نفسه وتزكية روحه وتعديل وتقويم سلوكه، بالأخذ بيده نحو معارج الكمال الإنْـسَـاني.
فلذلك قال اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى الذي بفضله وبرحمته بالبشرية جمعاء وبرحمته بالبيئة الأولى لهذا الدين بالمنطقة العربية: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، تلك الأُمَّــة التي لم تكن ترتبط لا بكتاب من كتب الله ولا بهدى من هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى، يتلو عليهم آياته ويزكيهم.
وعِمادُ استقامة الإنْـسَـان ونفعه وصلاحه في الحياة وعلاج مشاكل كُلّ الحياة التي هي منشأها الإنْـسَـانُ وعلى يد الإنْـسَـان، زكاءُ الإنْـسَـان، زكاء نفسه. إذا تدنست النفسُ الإنْـسَـانية، تتحول إلَى منبعٍ للشر، وتكونُ هي منشأ كُلّ المشاكل في هذا العالم، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)،
فتتحول إلَى أمة الكتاب التي تتغير كُلّ ما لديها من رؤى سخيفة وأفكار ظالمة ومنحرفة إلَى رؤى منشأها هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى، منشأها كتاب الله؛ لتكون أمة الكتاب، أمة القُــرْآن التي ترى بنور القُــرْآن، تقيّم الأشياء من خلال القُــرْآن، نظرتها إلى الواقع من حولها، إلى الأحداث من حولها من خلال القُــرْآن، وتحمل رسالة القُــرْآن وهدى القُــرْآن وأَخْلَاق القُــرْآن، ويعلمهم الكتابَ والحكمة؛ لتكون الأُمَّــة الحكيمة تحمل الحكمة رؤيةً، وتحمل الحكمة سلوكاً، وتحمل الحكمة مواقفاً، وتتَحَـرّك على أَسَــاس من الحكمة، أمة متزنة في تصرفاتها، حكيمة، قائمة على أسس صحيحة.
أية نقلة من ذلك الواقع المظلم الذي كان يعيشه العرب، لا حكمة ولا زكاء ولا هدى ولا مشروع، إلى أمة بين يديها الحكمة التي قدّمها رَسُــوْل الإسْــلَام من خلال القُــرْآن، من خلال تلك التعاليم العظيمة، الحكمة في السلوك، الحكمة في التصرفات، الحكمة في المواقف، الحكمة في القول والحكمة في الفعل.
ليس في ذلك الجيل وحسب، بل وكل الأجيال القادمة كما قال الله: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لكل الأجيال اللاحقة هدىً باقٍ في أوساط الأُمَّــة، فالقُــرْآن باقٍ في أوساط الأُمَّــة، والرسول صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَـى آلِــهِ أسوةٌ باقية من موقع الهداية، والأسوة في ما تركه، في ما قدمه من هدى، في ما قدمه من تعاليم، في ما عُرف من سيرته صَلَــوَاتُ اللهِ وَسَلَامُـهُ عَلَيْـهِ وَعَلَـى آلِــهِ، (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وما أعظَم قيم هذا الدين.