القرآن.. بُوصلة الوعي ومشروع الحياة
القرآن.. بُوصلة الوعي ومشروع الحياة
بشير ربيع الصانع
إنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية، وبوصلة وعي، ونور يبدد الظلمات التي تتراكم على القلوب والعقول، مصداقًا لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.. ومن أعظم ما ميّز هذا الكتاب العظيم أنّه عرّف الأُمَّــة بأعدائها، وكشف خفايا نفوسهم، وفضح أساليبهم ومكائدهم، حتى لا تُخدع الأُمَّــة بزخارف الشعارات ولا ببريق الحضارات المصطنعة.
فالقرآن يقدّم صورة عميقة لطبيعة العداوة التي يستهدف بها الباطل الحقّ، ويضع الأُمَّــة أمام الحقيقة من غير رتوش: أن هناك من يعادي هذا المنهج الإلهي، لأنه يعرف أثره، ويخشى يقظة الأُمَّــة إذَا ما تمسكت به، وقد كشف الله مكنون صدورهم بقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكبر قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.
وهكذا يبيّن لنا القرآن كيف يفكّر الأعداء، وكيف يتحَرّكون، وما نقاط الضعف التي تكمن في مشروعهم، بحيث يستطيع المؤمن أن يبصر طريقه وهو ثابت على هُداه.
ولذلك فإنّ التعامل مع الأعداء لا يكون بردود أفعال متخبّطة أَو عواطف وقتية، وإنما يكون وفق منهجية الله التي تضمن للمؤمن وضوح الرؤية وثبات الموقف.
فالقرآن رسم للمسلمين أُسلُـوب المواجهة، ووضع لهم مفاتيح القوة، امتثالًا لأمره سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
فهناك مواضع يُدعى فيها إلى الإعداد والصبر، ومواضع تُفرض فيها المواجهة الصلبة، وكل ذلك وفق حكمة إلهية تحفظ للأُمَّـة كرامتها وتوجّـه خطواتها نحو الصواب.
ومن أراد أن يعرف موقع الحق في هذا الزمن، فليتأمل أين تتجه سهام الأعداء.
فالحق لا تُحاربه إلا الأنظمة الظالمة والمشاريع المنحرفة التي تخشى وعي الشعوب ونهضة المستضعفين، والله تعالى يؤكّـد سنة التدافع بقوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ استطاعوا}.
وما دام القرآن هو العنوان الأكبر للهداية، فإن العداوة تتجه إليه وإلى من يتمسكون به.
ولهذا كانت قراءة الواقع من خلال مرآة القرآن هي القراءة الأصدق، لأنها تنزع الأقنعة عن الوجوه، وتكشف جذور الصراع الحقيقي.
أمّا تعامي الناس عن الحق، فليس سببه غموض الحق، بل انفصالهم عن المنهج الذي وضعه الله لهم.
فعندما ينفصل الإنسان عن القرآن والعترة الطاهرة، يصبح قلبه أشبه بسفينة بلا بوصلة، يتحَرّك في بحر الأمواج دون وعي بمصيره، يقول تعالى في وصف هذه الحالة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}.
ومن فقد صلته بالوحي، تاه في تقديراته، وغرق في الشبهات، واستسلم لكل ما يلمع ولو كان وهمًا أَو باطلًا.
ثم تأتي الرفاهية والترف لتزيد الغفلة رسوخًا؛ فحين ينشغل الإنسان بمتعه الصغيرة، وينغلق على رغباته ومكاسبه، يضيق أفقه ويصبح أسير ذاته، فلا يرى مسؤولية ولا رسالة ولا قضايا أُمَّـة.
إنّ الترف يقتل الشعور بالواجب، ويحوّل صاحبَه من خادمٍ للحق إلى عبدٍ لمطالبه الشخصية، وقد حذر الله من هذه الفئة بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ}.
ومن حاملٍ لرسالة إلى كائنٍ مستهلك لا يثيره إلا ما يتعلق بمصلحته الآنية.
وهكذا يتضح أن جوهر الأزمة في غياب الارتباط بالمنهج الإلهي الذي يكشف الطريق.
فمن جعل القرآن قائده، استقام نظره وثبتت خطواته وسَلم قلبه: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ومن أعرض عنهما عاش حياة بلا اتّجاه، مهما امتلك من وسائل الراحة أَو مظاهر القوة.
فالقرآن الكريم مشروع حياة، ووعيٌ يزيل الغشاوة، ونورٌ يحدّد الاتّجاه، وميزانٌ يفرّق بين صوت الحق وضجيج الباطل، استجابة للنداء الإلهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
ومن تمسّك به عرف أعداءه، وعرف نفسه، وعرف الطريق الذي يليق بأمة أراد لها الله أن تكون شاهدة على الناس.