من الشاة إلى الثور.. كيف تُسعّر الأعراف القبلية جرائم الشرف والدم والمال وتتلاقى مع روح الشريعة الإسلامية؟

من الشاة إلى الثور.. كيف تُسعّر الأعراف القبلية جرائم الشرف والدم والمال وتتلاقى مع روح الشريعة الإسلامية؟


تقرير/محسن علي

في أعماق التقاليد القبلية، حيث تتجذر الأصالة وتُحفظ الكرامة، يبرز نظام عرفي دقيق يُعرف بـ “الحَدّ” (بكسر الحاء)، وهو بمثابة دستور اجتماعي غير مكتوب يصون للإنسان حقوقه الأساسية في عرضه ودمه وماله, هذا النظام، الذي قد يراه البعض قديماً، لا يزال يمثل مرجعية قضائية واجتماعية راسخة في العديد من المجتمعات، مقدماً حلولاً رادعة وعقوبات تأديبية تهدف إلى رد الاعتبار وحفظ التوازن، ومؤكداً على مبدأ جوهري “كرامة الإنسان خط أحمر لا يمكن تجاوزه، حتى وإن كان مخطئاً” نستعرض في هذا الجزء الـ”15 ” مفاهيم “الحد” القبلي ومع الحصيلة:

“الحَدّ”..حين تكون الكرامة أغلى من كل شيء

يعرّف العرف القبلي “الحَدّ” بأنه الحق الأصلي الذي لا يسقط بالتقادم أو بالخطأ، وهو الدرع الذي يحمي ثلاثة أركان أساسية لوجود الإنسان: عرضه، دمه، وماله’ وتكمن فرادة هذا المفهوم في أنه يضمن هذا الحق للجميع، سواء كان الشخص معتدياً أم معتدى عليه، مما يعكس تطابقاً مذهلاً مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي لخصها حديث نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.

 

فلسفة “الحَدّ الأصلي”

لتبسيط المفهوم، يطرح العرف مثالاً واضحاً: لو أن سارقاً قُتل أثناء محاولته اقتحام منزل، فإنه يعتبر مخطئاً شرعاً وعرفاً, لكن خطأه لا يهدر دمه, فبينما تسقط عنه “الأحشام” (وهي أشكال من التقدير الإضافي)، يظل “الحَدّ الأصلي” لدمه قائماً، ويُلزم صاحب المنزل القاتل بدفع الدية الشرعية الكاملة لأهل القتيل, حيث وأن هذا المبدأ يؤكد أن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع الجرم، وأن الحق في الحياة يظل مصوناً.

 

جرائم العرض..عقوبات رادعة تبدأ بـ”شاة” وتنتهي بـ”ثور”

يولي العرف القبلي اهتماماً بالغاً بجرائم العرض، وهي كل قول أو فعل يمس كرامة الإنسان, وبدلاً من مبدأ “رد الإساءة بمثلها”، وضع العرف عقوبات تأديبية بديلة تُعرف بـ”الهجر”، وهي غرامات مادية ومعنوية تهدف إلى ردع المعتدي ورد اعتبار المعتدى عليه, وتُقاس هذه العقوبات، المسماة “الحجة”، بوحدات رمزية من المواشي:

 

عقوبات “رأس الغنم” (الشاة):

تُفرض هذه العقوبة على مجموعة من التجاوزات اللفظية والجسدية التي تعتبر مساساً بالكرامة، ومن أبرزها التالي:

اللعن والسب والشتم: وهو كل لفظ لعن يستوجب “حجة” (شاة ومبلغ نقدي)، وتتضاعف العقوبة بتكرار اللعن أو شموله لأشخاص آخرين كالأب أو الأم.

الاتهام بالكذب والنبز بالألقاب: وهي مناداة شخص بلقب مهين أو اتهامه بالكذب علناً يُعد خطيئة في العرض تستوجب عقوبة.

التهديد والتهجم: وهو مجرد التهديد بالقتل أو الأذى، أو التهجم على شخص في مكان إقامته، يعتبر جريمة عرض.

اللطم والمد: وهو صفع الوجه (اللطم) أو مد اليد على أي جزء من الجسد يُعد اعتداءً مباشراً يستوجب “حجة”، مع تشديد العقوبة في حالات معينة لتصل إلى دفع “ثور”.

التشبيه المهين: وهو تشبيه شخص بالحيوانات الدانية (كالحمار والكلب) أو بالملبوسات الحقيرة (كالحذاء) يُعد إهانة بالغة.

 

عقوبات “رأس البقر” (الثور):

تُخصص هذه العقوبة للجرائم الأشد خطورة والتي تمس صميم العرض أو تحدث في سياقات حساسة، ومنها:

القذف والاتهام في الشرف (الزراء الفاحش) والألفاظ  النابية مثل “يا ق..ح..ب..ة” أو “يا م..خ..ن..وث” أو “يا ز ن و ة” حيث تعتبر من أكبر خطايا العرض، وعقوبتها المبدئية “ثور” مع توابع نقدية، وتتضاعف بتكرارها.

الاعتداء في الأماكن العامة: أي اعتداء يقع في سوق أو مسجد أو مستشفى يُغلّظ حكمه إلى “الثور” لانتهاك حرمة المكان العام.

قضايا القتل وهجم الدمن: في جرائم القتل، يُساق “الثور” كرد اعتبار للعرض، وكذلك عند إطلاق النار على البيوت (هجم الدمنة) لانتهاك حرمتها.

طلب الصلح ودفن القتيل: لا يُطلب الصلح في قضايا الدم إلا بتقديم “ثور”، كما يُلزم الجاني بتقديمه لتجهيز طعام المشيعين عند دفن القتيل.

 

يقدم “الحَدّ” العرفي نظاماً قضائياً متكاملاً يضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار, كفلسفة اجتماعية ومجموعة من العقوبات تهدف إلى تحقيق الردع والعدالة ورد الاعتبار، مؤكداً أن الحفاظ على الأعراض والدماء والأموال هو أساس استقرار أي مجتمع، سواء كان محكوماً بقانون مكتوب أو بعرف متوارث.

*المرجع: كتاب قواعد العرف القبلي المسنونة والغصابة لقبائل اليمن- الشيخ صالح روضان.

 

يمانيون.