السيد حسن نصر الله: حين ارتقى القائد وبقيت الراية
بقلم/ عادل حويس
في حضرة القامة ينحني القلم قبل السطور ويغدو الحرف جندياً في محراب الشهادة.
ليس من السهل الكتابة عن رجل تحول من شخص إلى فكرة ومن قائد إلى معادلة ومن صوت إلى ضمير.
ففي ذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله نحن لا نرثي جسداً غاب بل نكتب في حضرة مشروع كامل لا يزال يزهر على حدود الكبرياء ويتجذر في وجدان كل حرٍ طلق آمن بعدالة قضيته.
لقد كان الرجل ومنذ نعومة وعيه.. مشروع مقاومة. نشأ بين ضيق الحال وسعة الإيمان وبين برد النزوح ودفء اليقين. لم تكن نشأته رفاهية مدن بل مخاض جنوب عجن بالألم والصبر والرجاء. ومن هناك من برج حمود إلى البازورية فالنجف فقم، تشكلت ملامح القائد الذي سيعيد ترتيب مفاهيم النصر والخسارة ويكتب بدمه معادلة جديدة في كتاب الصراع.
السيد.. حيث تنطق الصمت وتخرس العدو
لم يكن السيد نصر الله خطيباً عادياً يثير العواطف ويداعب الغضب العربي النائم بل كان من طينة القادة الذين يسبقون كلامهم بالفعل ويأتون بالحجة بعد الصاروخ وبالخطاب بعد الردع. كان صوته في زمن الانكسار العربي أشبه بنبوءة تعيد للأمة توازنها النفسي وتقول للمحتل: نحن هنا.. ولن نغيب.
في خطب تموز لم يكن يقرأ نصاً بل كان يكتب تاريخاً ويوزع جرعات من الكرامة على أمة أُريد لها أن تصاب بضمور في الإرادة وشلل في الإرث المقاوم. قالها بثقة:
“إنهم أوهن من بيت العنكبوت” ثم أثبتها بالحديد والنار والدم.
الشهيد الذي حول الهزيمة إلى ثقافة انتصار
ليس غريباً أن يكون استشهاد السيد نصر الله محطة كبرى لا تقاس بالحزن بل بالمعنى. ففي زمنٍ تغتال فيه الحقائق وتشترى القضايا جاء استشهاده ليؤكد أن هناك رجالاً لا يبدلون تبديلاً وأن مدرسة الشهادة ليست استثناءً، بل هي الأصل في زمن الغياب العربي.
لقد انتصر السيد في حياته وانتصر في استشهاده. انتصر عندما أعاد جنوب لبنان إلى حضن السيادة دون اتفاقيات إذعان ولا جلسات تفاوض طويلة على طاولة المساومات. وانتصر حين بنى مقاومة لا تعتمد على الدول بل على الإرادة. وانتصر أخيراً حين ارتقى وترك خلفه جيلاً من المقاومين يحملون ذات الرؤية وذات القسم.
فلسطين كانت البوصلة.. وستبقى
من أجمل ما في هذا القائد أنه لم ينس فلسطين وهو في أوج المواجهة في لبنان. لم يكن ينظر إلى فلسطين كـ”قضية شعب” بل كواجب أمة.. وامتحان ضمير ومحك شرعية. جعل من دعم المقاومة الفلسطينية أكثر من شعار بل جزءاً من صلب العقيدة القتالية والسياسية لحزب الله.
لم يكن يهتف لفلسطين على المنابر فقط بل أرسل لها من تجارب الجنوب ومن وعي الجبهات، ومن الصواريخ التي كسرت وهم الأمن الإسرائيلي. وكان كما وصفه أحد المجاهدين: “يقاتل من لبنان وقلبه في غزة”.
قائد غادر الجسد.. وبقي بيننا روحاً ونهجاً
اليوم في ذكراه السنوية الأولى لا يبكيه الأحرار بل يستلهمونه. لا يقام له مأتم بل يتلى على اسمه عهد جديد.
مات القائد جسداً لكنه في ضمائر الأوفياء أكثر حياة من كثيرين يحسبون على الأحياء. لم يشبه القادة التقليديين في شيء لا في أسلوبه ولا في منطقه ولا في تواضعه ولا حتى في هندامه. كان ابن الناس وابن الجبهة وابن المعركة. لذلك كان قريباً منهم إلى الحد الذي يشبههم، وعظيماً إلى الحد الذي يلهمهم.
خاتمة: إن رحل الكبار فإن الراية لا تسقط
أيها القائد يا من صِرت في الخلود سلام عليك يوم نطقت بالحق ويوم عشت للناس ويوم ارتقيت شهيداً. لقد أثبت أن الزمن العربي ليس كله هزيماً وأن فينا من لا يركع وأن الراية التي رفعت في الجنوب وفي الضاحية وفي غزة لا يمكن أن تسقط ما دام فيها من حملها بدمه.
سلام عليك.. يا صوت المقاومة ويا ضمير الأحرار.
في ذكراك نكتب لا لنرثي بل لنؤرخ عهد الرجال حين كانت الأوطان تصنعهم.. فيصنعون بدورهم التاريخ.