علماء اليمن: وحدة الأمة سلاحها في مواجهة حرب التجويع ومخطط “إسرائيل الكبرى”
في قلب العاصمة صنعاء، وفي رحاب قاعة غصّت بالعلماء المتنورين بالإيمان والقلوب المفعمة بالمسؤولية، انطلق صباح اليوم الأربعاء المؤتمر السنوي لعلماء اليمن، الذي أقامته رابطة علماء اليمن تحت عنوان: “موقف علماء الأمة تجاه حرب التجويع في غزة ومخطط إسرائيل الكبرى”. كان المشهد أقرب إلى لوحة جامعةٍ للعلماء من اليمن وخارجه؛ يتقدمهم مفتي الديار اليمنية العلامة شمس الدين شرف الدين، والنائب الأول لرئيس الوزراء عضو رابطة علماء اليمن العلامة محمد مفتاح، والعلامة أحمد درهم المؤيدي، والعلامة حسين الهدار مفتي محافظة البيضاء، و عضو رابطة علماء اليمن إمام جامع معاذ بن جبل العلامة محمد علاو، والشيخ ماهر حمود رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة، ومعهم كوكبة من أهل العلم الذين حملوا هموم الأمة على أكتافهم.
كان المؤتمر منصة صادحة بالحقيقة، إذ صدر عنه بيانٌ جامعٌ عانق وجدان الأمة، وأعاد التأكيد على أن القيم النبوية ما تزال منارة للخلاص. فبمناسبة المولد النبوي الشريف، هنّأ العلماء الأمة الإسلامية، داعين إلى استلهام شجاعة النبي وجهاده، وإلى ترسيخ قيم المحبة والسلام التي جاء بها، لتكون حصناً في مواجهة رياح الفتن والتفرقة.
المطلوب هو الشدة على اليهود
في مؤتمر علماء اليمن ارتفعت الأصوات، لا كأصواتٍ عابرة، بل كنبضٍ حيٍّ للأمة، يعلن أنّ اليمن لم يعد مجرد شاهدٍ على مأساة فلسطين، بل صار لواءها المرفوع وعضدها الصلب.
تحدث مفتي الديار اليمنية، العلامة شمس الدين شرف الدين، بلسانٍ صادق لا يعرف المداهنة، مؤكداً أن كلمة الحق أمانة في أعناق العلماء، وأن الصمت أمام جرائم العدو خيانة لرسالة النبي الذي بُعث رحمة للمؤمنين وشدّة على الكافرين. وسأل العلماء: كيف يليق بهم أن يسكتوا وغزة تحترق، وأطفالها يذبحون؟!
رفع المفتي نداءه إلى الأمة والعلماء والمجاهدين، محرضاً على الجهاد في سبيل الله، ومبيناً أن اليمن إنما ينهض برسالته الإيمانية والأخلاقية، مستمداً من قائده السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ثبات الموقف وصلابة اليقين. وأشاد بملايين اليمنيين الذين يخرجون أسبوعياً، هاتفين للقدس، ومعلنين أن دماء غزة دماؤهم، وأن حصارها حصارهم.
وقال العلامة شرف الدين : “أعظم بيان هو كلمة الحق في مواجهة أعداء الله ورسوله والإنسانية والإسلام، ولابد أن نوضح للناس ما تم تغييبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرحمة بالمؤمنين والشدة على الأعداء، كما قال تعالى [محمدٌ رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم]، وهذا الوصف يجب أن يكون حاضراً في الواقع”.
وتساءل: “هل طاعة الله مرهونة بطاعة حكام الفجور والفسوق والسكوت؟ حاشى الله كما دجّنت الأمة على مدى عقود. ما كان للعلماء السكوت إزاء ما يجري في غزة وفلسطين، فالعلماء الذين يتحاشون ذكر ما يجري في غزة وفلسطين من قتل وتجويع وحصار وتدمير، لن يكونوا من أتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام”.
دور العلماء أوضحه المفتي بأنه يتركز على تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله نصرة للمظلومين ومواجهة للأعداء والمستكبرين والظالمين بقيادة “أمريكا وإسرائيل”، فعالمية الدين الإسلامي الحنيف لن تكون إلا بأمرين: الأول قيادة ربانية، والآخر رجال كأصحاب رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام.
وتابع: “الشدة على اليهود يجب أن تظهر في القائد والمسؤول والجميع، ولا تقتصر على أحد”، حاثاً على ضرورة تغليب الخلافات المذهبية، وألّا تكون حاجزاً للوقوف مع الحق.
ووجه مفتي الديار اليمنية رسائل مهمة لولاة أمر المسلمين وعلماء اليمن والأمة والمجاهدين في غزة، بأن يتقوا الله ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، والدعوة لنصرة المستضعفين والوقوف في وجه الظالمين والمستكبرين.
وخاطب المقاومة في غزة قائلاً: “موقفكم مشرف، كتب الله أجركم، والتاريخ لن ينسى جهادكم وما قدمتموه من بطولات وتضحيات، ولن يضركم المتخاذلون”، مخاطباً متحدث كتائب الشهيد عِزِّ الدِّينِ القَسَّامِ الجناحِ العسكريِّ لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” أبا عبيدة بالقول:” إن الشعب اليمني، شعب الإيمان والحكمة حاضر معكم وإلى جانبكم، وأنتم لستم وحدكم، فالله معكم، ونحن إلى جانبكم مهما كانت التضحيات والتحديات”.
كما خاطب علماء الأمة بالقول “نحن خصومكم يوم القيامة نظير صمتكم وسكوتكم عن الجرم الكبير في غزة، وتدجينكم الناس لطاعة الحكام المتآمرين”، فيما خاطب ولاة الأمر قائلاً: “افرحوا قليلاً ولتستهوِكم وعود الشيطان، وعما قريب ستعضون أنامل الندم”.
أما النائب الأول لرئيس الوزراء، العلامة محمد مفتاح، فقد وصف اليمن بأنه لم يعد مجهول الهوية، بل أصبح عنواناً بارزاً للحق، ومركز إشعاع للمستضعفين، حاملاً الراية الأولى في مواجهة الطواغيت. وأكد أن الأمة الإسلامية كلها تلتفت اليوم إلى صنعاء، لا باعتبارها عاصمة لبلد، بل كعاصمة للإيمان في هذا الزمن، حيث يلتقي العلماء والشعب على كلمة سواء، نصرة لفلسطين.
وأشار العلامة مفتاح إلى أن الإسلام والإيمان حاضر في قلوب اليمنيين، وما يجري نهضة إسلامية واستنهاض للمسلمين في كل البلدان، مهما كان حجم التعتيم الإعلامي. وأضاف مخاطباً العلماء: “أنتم تتحملون مسؤولية التوعية والفتوى والإرشاد والتوجيه، ولكم الشرف في ذلك، وهو يحفزنا في العمل مهما كانت أشغالنا أن نجعل أعمالنا في طاعة الله، في التوجيه والإرشاد والفتوى والتوعية والتثقيف”.
ودعا النائب الأول لرئيس الوزراء العلماءَ في أقطاب الدنيا إلى تجريم الصهيونية وقادتها، مبيناً أن المنظومة الصهيونية ارتكبت أبشع الجرائم بحق الإنسانية على مدى قرن من الزمن، وتحمل مشروع الإفساد في الأرض والانحلال للبشرية. وأوضح أن تخاذل الأنظمة العربية والإسلامية تجاه ما يجري في غزة إنما هو من أجل الصهيونية، وخدمة أجندة الصهاينة، معتبراً ذلك عاراً على النخب الصامتة، وعار على العلماء أن يسكتوا عن ذلك.
وتوالت كلمات العلماء، من عبدالمجيد الحوثي إلى حسين الهدار وعبدالباسط الحميدي وغيرهم، وكلهم صدحوا بالحق: أن اليمن (أرض الإيمان والحكمة) لم يرضَ أن يكون متفرجاً، بل كان سبّاقاً إلى الساحات، معلناً موقفاً مبدئياً ثابتاً، لا تهزه العواصف، ولا تغريه موائد التطبيع. لقد أكدوا أن أمريكا والكيان الصهيوني هما أصل الشر والعدوان، وأن أكثر الحكام العرب صاروا أدوات بيد المستكبرين، بينما بقي اليمن وحيداً يحمل أمانة الأمة.
ومن لبنان، جاء صوت الشيخ ماهر حمود، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة، ليشهد أن اليمن السعيد أسعد الجميع بمواقفه، وأن كلمات قائده تشعل الأمل في قلوب المستضعفين.
لقد اجتمع العلماء في صنعاء لا ليكرروا خطاباً مألوفاً، بل ليعلنوا بوضوح: إن غزة ليست وحدها، وإن اليمن -شعباً وقيادةً وعلماء- حاضر في الميدان، نصيراً للمظلوم، عدواً للمستكبر، وفياً للعهد الذي قطعه رسول الله: “الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية”.
وهكذا بدا المؤتمر لوحة إيمانية وسياسية في آن، لوحة تضيء فيها صنعاء باسم النبي في مولده، وتزدان بصوت الحق، فيما غزة تسمع من بعيد أن لها في اليمن أهلاً لا يخذلونها، وقلوباً لا تنكسر، ورجالاً يرابطون بالكلمة والموقف كما يرابط المقاومون بالبندقية.
وفي لغة تقطر ألماً وغيرة، أدان البيان الجرائم المروّعة للعدو الصهيوني في غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن، وخصّ بالذكر سلاح التجويع الذي يُستخدم لفرض الاستسلام والتهجير، واعتبره جريمةً تمس جوهر الإنسانية. ووجّه العلماء نقداً لاذعاً لحالة الصمت والتقاعس التي غلّفت مواقف كثير من الأنظمة الإسلامية، بل حتى بعض الجيوش والشعوب والعلماء، تجاه مأساة غزة، فيما تتواصل حرب الإبادة في وضح النهار.
وحذّر المؤتمر من أن التطبيع مع العدو الصهيوني لم يعد مجرّد خطأ سياسي، بل غدا جريمةً مضاعفة في ظل استمرار المجازر وانكشاف مخطط “إسرائيل الكبرى”. وأكد البيان أن نصرة فلسطين وغزة لم تعد خياراً كمالياً، بل واجباً شرعياً وأخلاقياً يتضاعف كلما ازداد العدوان شراسةً وتجويعاً.
كما شدّد العلماء على حرمة التخاذل أو التواطؤ، فضلاً عن عقد الصفقات أو المساومات مع العدو بأي صورة كانت، داعين الأنظمة التي تمدّه بالبضائع والسلاح إلى سرعة التوبة وقطع كل أشكال العلاقة معه. ولم يفت البيان التنديد بإنفاق ترليونات الدولارات في صفقات عبثية تصب في خدمة العدو، بينما يموت أطفال غزة جوعاً وعطشاً، في مشهد يختصر خيانة كبرى للقيم والدين والإنسانية.
وأكد العلماء أن محاولات بعض الأنظمة العربية نزع سلاح الأمة وتجريدها من عناصر قوتها ليست سوى خدمة مباشرة للعدو الإسرائيلي، مجددين التمسك بخيار المقاومة وسلاحها في غزة ولبنان وسائر بلدان المسلمين، بكونه صمام الأمان الأخير للأمة، ودرعها الحامي أمام طوفان المؤامرات.
وهكذا، ختم مؤتمر علماء اليمن بيانه برسالة واضحة: إن معركة الأمة ليست معركة جغرافيا وحدود، بل معركة هوية ووجود، وإن وحدة الكلمة والتمسك بخيار المقاومة هما السبيل لصدّ حرب التجويع، وكشف مخططات التوسع الصهيوني، ليبقى العلماء صوت الضمير الحي الذي يذكّر الأمة بواجبها مهما ثقلت الخطوب.