معرفة الله ـ الثقة بالله ـ الدرس الأول

سلسلة معرفة الله (1 – 15)

معنى (لا إله إلا الله) _ الدرس الأول

دروس من هدي القرآن الكريم

ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي
بتاريخ: 18/1/2002م
اليمن – صعدة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
الحقيقة: إذا تأمل الإنسان في واقع الناس يجد أننا ضحية عقائد باطلة، وثقافة مغلوطة جاءتنا من خارج الثقلين: كتاب الله، وعترة رسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، هذا شيء. الشيء الآخر – وهو الأهم – أننا لم نثق بالله كما ينبغي، المسلمون يعيشون أزمة ثقة بالله.. لماذا؟ أليس في القرآن الكريم ما يمكن أن يعزز ثقتنا بالله سبحانه وتعالى؟ بلى. القرآن الكريم هو الذي قال الله عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21) قلة معرفة بالله، انعدام ثقة بالله، هي التي جعلت المسلمين يتصرفون بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، فلم يهتدوا بهديه، لو وثقنا بالله كما ينبغي لانطلق الناس لا يخشون أحداً إلا الله، لو صدقنا كما ينبغي وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وعد الله لأوليائه، وعد الله لمن يكونون أنصاراً لدينه.. ما وعدهم به من الخير، والفلاح والنجاح والسعادة والعزة والكرامة والقوة في الدنيا، وما وعدهم به في الآخرة من رضوان، من جنات عدن.. لو صدقنا بذلك كما ينبغي لما رغبنا في أحد، ولما رهبنا من أحد، لكانت كل رغبتنا في الله، وفيما عنده، وفي رضاه، وكل رهبتنا من الله ومن وعيده وغضبه وعقابه.
الخطاب القرآني يتجدد دائما يقول للناس: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}(الحديد: من الآية16) ألم يأن, يعني: ما قدو وقت – بتعبيرنا نحن – ما قدو وقت أن الناس تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق من القرآن الكريم؟ {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}(الحديد: من الآية16) تخويف من أن يصير الناس إلى ما صار إليه بنوا إسرائيل، الذين طال عليهم الأمد يسمعون مواعظ، ويقرؤون كتباً، ولكن ببرودة لا يتفاعلون معها، وتتكرر المواعظ وتتكرر النبوات، وهكذا، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} حتى فسق أكثرهم، وحتى استبدل الله بهم غيرهم، وحتى جردهم من كل ما كان قد منحهم إياه: النبوة، وراثة الكتاب، الملك، الحكمة.
نحن المسلمون نتعرض لمثل هذه الحالة فكتاب الله يتردد على مسامعنا كثيراً، والمواعظ تتردد على مسامعنا كثيراً، والعلماء بين أظهرنا يتحدثون معنا كثيراً، ولكن نتلقى الكلام, نتلقى آيات القرآن ببرودة لا نتفاعل معها، أصبح تقريبا مجرد روتين استماع القرآن الكريم، واستماع المواعظ، وحضور المناسبات، لكن دون أن نرجع إلى أنفسنا فنجعلها تتعامل مع كل ما تسمع بجدية، وتتفاعل معه بمصداقية. نتعامل ببرودة مع كل ما نسمع، ولم ننطلق بجد وصدق لنطبق، لنلتزم، لنثق.
ستقسو قلوبنا – ونعوذ بالله من قسوة القلوب – متى ما قست القلوب يصبح هذا القرآن الكريم الذي لو أنزله الله على الجبال من الصخرات الصماء لتصدعت من خشية الله، لكن القلب متى ما قسي يصبح أقسى من الحجارة، فلا يؤثر فيه شيء. قال الله عن بني إسرائيل الذين حكى بأنهم طال عليهم الأمد فقست قلوبهم قال عنهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(البقرة: من الآية74)، من بعد ماذا؟ من بعد المواعظ، من بعد الآيات الباهرات التي لم يتفاعلوا معها، ولم يعتبروا بها، ولم يتذكروا بها فقست قلوبهم، هكذا طبع الله القلب.
القلب إذا لم تحاول أن تجعله يلين مما يسمع، يلين لذكر الله، يوجل إذا سمع ذكر الله، يزداد إيمانا إذا تليت عليه آيات الله إذا لم تتعامل معه على هذا النحو فبطبيعته هو يقسو، يقسو, يقسو.. ومتى ما قسي قلبك سيطرت عليك الغفلة والنسيان لله سبحانه وتعالى، إذا ما نسيت الله نسيت نفسك، فتأتي يوم القيامة فتكون منسياً عما كنت ترجوه من الخير، أو تأمله من الخير والنجاة، والفوز يوم القيامة {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}(التوبة: من الآية67) {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19).
قلوبنا إذا لم نحاول أن نتعامل معها من منطلق الخوف أن تصل إلى هذه الحالة السيئة: القسوة, فتصبح أقسى من الحجارة، فحينئذ لا ينفع فيك شيء، لا ينفع فيك كتاب الله، ولا ينفع فيك رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، ولا ينفع فيك أي عظة تمر بك في هذه الدنيا.
والمطلوب من القلوب هو أن تخشع لذكر الله، هو أن تلين، هو أن تصدِّق، أن تثق، أن تمتلئ بالخشية من الله، أن تمتلئ حباً لله، معرفة قوية بالله سبحانه وتعالى.. متى ما صلح القلب صلح الإنسان بكله، وانطلق ليصلح الحياة بكلها، وانطلق بإيمان، بثقة، بإخلاص، بصدق، بتوجه حكيم في كل ما يريد الله سبحانه وتعالى منه.
من أين جاءت أزمة الثقة بالله حتى أصبحت وعوده تلك الوعود القاطعة المؤكدة وكأنها وعود من لا يملك شيئاً؟! وكأنها وعود من لا علاقة لنا به، ولا علاقة له بنا.. كيف نعمل؟. نعود إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.
نحن في الدرس السابق تحدثنا عن ما عرضه القرآن الكريم عن أولياء الله، كيف يكونون، كيف يكون أولياؤه, بعد أن تعرفه ستثق به، فمعنى أنك أصبحت من أوليائه أنك جعلته ولياً لأمرك، لكل أمورك، تهتدي به، تسترشد به، تثق به، تتوكل عليه, تصدِّق بما وعدك به، تلتجئ إليه في كل المهمات.
وأهم مصدر لمعرفة الله سبحانه وتعالى هو القرآن الكريم، القرآن الكريم الذي يعطي معرفة واسعة، معرفة متكاملة، من غير القرآن الكريم لا يمكن أن نحصل على المعرفة بالشكل الذي ينبغي أن نكون عليها، حتى تكون معرفة تدفعنا إلى الثقة بالله أكثر فأكثر.
فالإنسان إذا تأمل القرآن الكريم فعلاً يستحي، يستحي من الله أنه كيف لا نثق به، ونحن نسمع آياته، ونحن نقرؤها، ونحن نؤمن بأن هذا الكتاب الكريم هو من عنده.. فلماذا.. لماذا.. لماذا لا نثق؟ لماذا نبحث عن هذا الطرف أو هذا الطرف لنتولاه، ثم لا نتولى الله سبحانه وتعالى.
الآيات التي نحصل من خلالها على معرفة لله بالشكل المطلوب هي آيات كثيرة جداً، جداً في القرآن الكريم، تلك الآيات التي تتحدث عن ألوهية الله، وملكه، وعظمته، تلك الآيات التي تتحدث عن عظيم نعمه علينا، تلك الآيات التي تتحدث بأن له ملك السموات والأرض، التي تتحدث بأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو من يملك اليوم الآخر، وبيده مصيرنا، هو من يملك الجنة، من يملك النار، هو من يعلم الغيب والشهادة، هو العزيز، هو الحكيم، هو السميع، هو البصير، هو الرؤوف، هو الرحيم.
تلك الآيات التي تتحدث عنه سبحانه وتعالى بأنه جدير بأن يثق به عباده، وأن يخاف منه عباده، وأن يلتجئ إليه أولياؤه.
فمتى ما كان لله سبحانه وتعالى عظمة في نفوسنا، متى ما عرفنا من خلال هذه الآيات الكريمة ماذا يعني أنه ملكنا، وأننا عبيد له، ماذا يعني أنه ربنا، وأننا مربوبون له، ماذا يعني أنه رحيم، ماذا يعني أنه رحمن، ماذا يعني أنه جبار، أنه منتقم؟ ماذا يعني: أنه من يملك السموات والأرض وما بينهما؟ ماذا يعني أن له جنود السموات والأرض؟ ماذا يعني كل ما شرحه وفصله عن شئون ملكه وتدبيره لعباده ومخلوقاته؟ أن نعيها, أن نفهمها؛ لنعرف كيف ينبغي أن يكون التعامل في ما بيننا وبينه سبحانه وتعالى، بحيث لا تبقى الأشياء مجرد أسماء.
نحن نقرأ دائماً {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة:1-2) ألسنا نقول: رب العالمين؟ لكن لا نعرف ماذا يعني أنه رب العالمين، ما يترتب على هذا من الأشياء بالنسبة لنا!.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:3-5) هكذا نصفه بأنه رحمن رحيم، وأنه ملك يوم الدين، لكن مجرد عبارات نقرؤها، ونقفز عليها لا نحاول أن نفهم ماذا يعني، أنه إذا كان هو رحمن إذاً فهو عندما ينزل القرآن الكريم, ويهدينا بالقرآن الكريم فهو من منطلق أنه رحيم بنا.. إذاً فكل ما في القرآن الكريم من توجيهات وإرشادات وهداية هي كلها رحمة بنا.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إذا كان هو من له الملك وحده في يوم القيامة فهو وحده من يجب أن نلتجئ إليه، ونرغب إليه، ونرغب فيه، ونخاف منه؛ لأنه يوم لا بد أن نحشر فيه إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك أي مُلْكٍ, أي مشاركة لأي أطراف أخرى في ملك ذلك اليوم, وليس الملك إلا لله الواحد القهار، إذاً فهو وحده الذي يجب أن نخاف منه؛ لأن أعظم نعيم هناك في الآخرة بيده، وأشد عذاب أليم هناك في الآخرة بيده، فهو من يملك الجنة، ومن يملك النار، فهو وحده الذي يمكن أن يمنحنا الجنة، وهو وحده الذي يمكن أن يوصلك إلى قعر جهنم. لمن الملك اليوم؟؟ لله الواحد القهار.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نعبده ولا نعرف ماذا يعني أننا عبيد له! ماذا تعني عبوديتنا له! القرآن الكريم كرر هذا بشكل كبير جداً، تقرير عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وتقرير ملكه علينا، وألوهيته علينا بشكل كثير ورد في القرآن الكريم.
منها هذه الآية التي هي من أعظم الآيات في القرآن الكريم: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة:163) أليس هو هنا يتحدث عن كماله سبحانه وتعالى بالشكل الذي يجعلنا نلتجئ إليه باعتباره إلهنا، ونلتجئ إليه باعتباره رحمن رحيم، فهو إله ليس إله يتسلط، إله يتجبر، بل هو يرحم عباده، فكل ما شرعه لهم، كل ما هداهم إليه إنما هو من منطلق أنه مسئول عن أن يعمل هذا العمل بهم باعتباره إلههم؛ لأنه إلههم.
ولأنه رحيم فكل ما يأتي من عنده هو من منطلق الرحمة.. فعندما يتحدث, أو عندما يرشدنا، أو يأمرنا بأشياء قد نراها شاقة، قد تبدو أمامنا وكأنها شاقة فنعدل عنها فنبدو وكأننا إنما عدلنا عنها لأننا رحمنا أنفسنا، ومن منطلق رحمتنا بأنفسنا لا نريد أن يحصل عليها ما يشق عليها, ما يتعبها. هذا هو ما هو حاصل عند الناس, لا ينطلقون فيما وجههم الله إليه، وفيما أمرهم به فالأشياء التي يرونها وكأنها ثقيلة وشاقة؛ لأنهم رحماء بأنفسهم.. لماذا لا تثق بأن الله هو أرحم بك من نفسك، هو أرحم بك من نفسك، هو أرحم بك من أمك وأبيك، هو أرحم بك من أي قريب لك، هو من يعلم الأشياء التي فيها رحمة لك إذا ما سرت عليها، الأشياء التي إذا ما تحققت هي رحمة لك، هو وحده الذي يعلم.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، ليس هناك آلهة متعددة حتى يمكن أن تقول:[والله هذا الإله شاقة تعليماته يمكن أن نرجع إلى الإله الآخر] مثل ما هنا في الدنيا, الإنسان يقطع له بطاقة من المؤتمر، وبطاقة من الإصلاح، وبطاقة من البعث أو من أي حزب آخر؛ إذا رأى أن هذا الحزب ليس له مصالح فيه عاد إلى الحزب الآخر، إذا حصل من جانب هذا الحزب ما يتعبه أو يزعجه عدل عنه إلى حزب آخر، ما هكذا يحصل؟.
لكن لا.. ليس هناك إلا إله واحد، ليس هناك مفر أبداً منه، لا مفر منه إلا إليه، ليس هناك من يمكن أن ينجيك من عذابه وسخطه إذا ما سخط عليك, وحكم عليك بعقوبته، ليس هناك من يمكن أن يسلبك ما قد منحك إياه, أبداً ليس هناك أي طرف يمكن أن يكون قادراً على أن يرد الفضل الذي قد أراد الله سبحانه وتعالى أن يعطيك إياه، والخير الذي أراد أن يمنحك إياه {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}(يونس: من الآية107).
ما الذي يحصل في هذه الدنيا في تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى, عندما نسمع آياته تتلى علينا, وفيها تلك الآيات التي تأمرنا بالتوحد, بالأخوة، بالإنفاق في سبيله، بالجهاد في سبيله، بالعمل على إعلاء كلمته، بأن نكون أنصاراً لدينه؟ وهكذا.
كيف يعمل واحد.. يرجع يطأطئ رأسه، ويمشي مدري فين، يتجه كذاك, يريد يهرب مدري فين! إلى المجهول، يحاول يعرض! تحدبر برأسك وتحاول تعرض كذا ولا كذا، أين ستذهب؟.
أنت فقط تغالط نفسك، تحاول تتهرب وتحاول تتناسى هذا الشيء، وتحاول تنشغل بأشياء تدخل فيها لما تنسى، وهكذا تساهي نفسك، تساهي نفسك حتى يأتيك الموت، فتجد بأنك إنما كنت تغالط نفسك، وتخادع نفسك؛ لأن الله لا ينسى، لا يغفل، يراقبك سواء تهرب إلى هذا أو إلى هذا، أو حتى تسير تبحث عن أسئلة تدور لك لأسئلة إذا باتلقى لك مخرج من عند ذيه ولاّ من عند ذيه من أجل إذا… يوم القيامة.. ما بِشْ.. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت: من الآية53) هو الشاهد على كل شيء، شاهد على أعمالنا عليم بذات الصدور.
يوم القيامة سيتبرأ منك حتى أولئك الذين كنت تؤيدهم في الدنيا وتصفق لهم وهم يسيرون في طريق الباطل {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة:166-167)؛ لأنه سيرد وهو مشغول بنفسه هو هالك، هو مذهول، يقول لك: رحلك، ماذا أعمل لك؟ ما أستطيع أعمل لك شيء.
أنت تتألم، تتألم, وتصبح حسرات تقطع قلبك، عذاب نفسي، هذا الذي كنت في الدنيا أصفق له، وكنت في الدنيا بَعْدَه، وكنت في الدنيا أركزه، وأقول انه.. وانه… إلى آخره.. ها هو يتبرأ مني الآن، [ليت ان عبا يُسبُر ارجع الدنيا ثاني مره أتبرأ منّه وألعنه من فوق كل منبر].
{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا}(الزمر: من الآية59) ترى هكذا يأتي بعد كل آية تتحدث عن النسيان {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}(طـه: من الآية126) كنا في الدنيا نقول لك تتبرأ من المجرمين, تتبرأ من الظالمين, تمشي على هدي الله، لا ترتبط بغير هدي الله والهداة إلى دين الله.
أليست حسرات شديدة على الإنسان يوم القيامة، وهو هنا كان يعرض في الدنيا ويبحث عن من يتمسك به فيأتي يوم القيامة يتبرأ منه.
أليست هذه الآيات تعني أنه سيكون حسرة شديدة عندما يقولون: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا}(البقرة: من الآية167) عبّر الله عن أن هذه الكلمة انطلقت من نفوس تتقطع حسرات {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} غيض شديد, وتألم شديد من أولئك الذين كنا في الدنيا نصفق لهم، وكنا في الدنيا نؤيدهم، وكنا في الدنيا نمشي على توجيهاتهم، وهم كانوا هكذا، توجيهات ليست على وفق كتاب الله سبحانه وتعالى! حسرات عندما قال الله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}(البقرة: من الآية167).
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(البقرة: من الآية163) إله واحد, نبي واحد، وكتاب واحد، ومنهج واحد، وطريق واحد لغاية واحدة، هي رضا الله والجنة.
آية الكرسي التي نقرؤها وهي من أعظم آيات القرآن الكريم يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(البقرة: من الآية255) ثقوا به؛ لأنه الله الذي لا إله غيره, أي هو من يملك شئونكم، من بيده شئونكم وأموركم، هو من يدبر أموركم، هو وحده الذي يمكن أن تألهوا إليه، وتلتجئوا إليه.. هو الحي لا يمكن أن تقول:[ربما قد مات، الله يرحمه، إيش عبَّا يسوي لنا]؟ لا، هو الحي.. هو الشاهد على كل شيء.
قيوم، هو القيوم على كل شيء, فهو قائم على كل نفس بما كسبت. هو القيوم هو الشاهد على هذا العالم من يقوم بتدبير شئونك، هو من يقوم بتحقيق ما وعدك به، بإنجاز ما وعدك به.
هو أيضاً {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ}أول النوم، أو نوع من الغفلة، {وَلا نَوْمٌ} فيمكن أن يهاجموك وهو راقد.. لا، يقول واحد [والله إما إذا هو بيرقد فيمكن يباغتونا وهو راقد ويرجع ينتبه وقد نجحت] لا, لا.. الله سبحانه وتعالى لا يغفل، لا ينام، لا يسهو، لا ينسى عندما تثق به فأنت تثق بمن لا يغفل عنك لحظة واحدة، بمن هو عليم بذات الصدور، صدرك أنت, وصدر عدوك, فثق بمن يستطيع أن يملأ قلبك إيمانا وقوة، ويملأ قلب عدوك رعباً وخوفاً {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}(لأنفال: من الآية12).
من هو الذي يمكن أن تتولاه, وله هيمنة على القلوب؟ من هو الذي يمكن؟ لا زعيم، لا رئيس، لا ملك، لا أي أحد في هذا العالم له هيمنة على القلوب.. ألم يقل الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله):((نصرت بالرعب من مسيرة شهر))؟ من أين جاء هذا الرعب؟ من قبل الله، هو الذي هو مطلع على القلوب، وبيده القلوب يستطيع أن يملأها رعباً, ويملأ تلك القلوب قوة وإيماناً وثقة، وعزماً وإرادة صلبة؛ لأنه قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
ممكن يكون معك وأنت في الدنيا هذه صديق مسئول أو تاجر، يحصل موقف، تسير إلى عند باب بيته.. قالوا: لحظة عاده راقد.. يا جماعة احنا عجّالين بلغوه.. قالوا ما يمكن.. لأنه عادة كل من هو كبير في هذه الدنيا كلما بيكون أكثر ابتعاداً عن الناس.. راقد! شٌوفُوه لنا.. ذا معنا ورقة نريد يعمل لنا توجيه إلى عند فلان، معنا مشكلة كذا وكذا، ونريد.. قالوا: لحظة.. راقد، ويمكن أن تخلي الورقة عند الحارس وتجي لها إنشاء الله بكره؛ لأن وليك هذا هو يسهر على الفيديو إلى ما قبل الفجر، ويتابع الفضائيات إلى ما قبل الفجر، ثم ينام ويواصل نومه إلى الظهر، وهناك من يذهب يشتري له قات، ويذهب يشتري مصاريف البيت، وهو يصحو فقط في الظهر، وأنت منتظر له عند الباب، لأن وليك هذا راقد، تأخذه ساعات من النوم، والورقة حقك عندما توصلها عنده يقلبها قليلاً، وهو متأثر بعد النوم، عاده مِبَخِر بعد الغداء، وإن شاء الله عندما يصحو بالقات قبل المغرب يرجع يشوف ورقتك، ثم يحولها: [الأخ الفلاني اطلعوا على قضية الأخ فلان وانظروا فيها على حسب ما بدا لكم]. مثل هذا ليس جديراً بأن تتولاه, وأن تثق به بعيداً عن الله سبحانه وتعالى.
أما الله عندما تتولاه هو الشاهد على كل شيء, هو الحاضر على كل شيء {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}(المجادلة: من الآية7)، {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(الحديد: من الآية6)، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(البقرة: من الآية255). هو إلهك، هو ليس إلهاً من تلك الآلهة التي شراها جدك من الهند ووضعها في الساحة قرب بيتك، يحتاج تنظفه وتبخر له – مثلما كان يفعل العرب سابقاً – وهو لا يملك حتى المكان الذي هو منصوب عليه.
أما هذا الإله العظيم، هو من له ملك السماوات والأرض, وكونه مالك من في السماوات والأرض ملك نافذ لا أحد يستطيع أن يتمرد على إرادته، لا أحد يستطيع أن يغالبه, فإذا ما كان معك فسيجعل الكون بكله معك، وهو من يستطيع أن يهيئ ويدبر, يستطيع أن يسخر.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}(البقرة: من الآية255)، حتى لو ظننت من منطلق آخر بأن ذلك الشخص الكبير في الدنيا يمكن أن يكون كبيراً في الآخرة، فيشفع لك؛ لأنه كان وجيهاً في هذه الدنيا، ولديه ممتلكات كثيرة، وكان له سلطة عظيمة يمكن أن ينفع يوم القيامة.. كانت هذه نظرة عند العرب السابقين، عند الجاهليين السابقين، كانوا يعتقدون أن الشخص الوجيه في الدنيا يمكن أن يكون أيضاً وجيها في الآخرة، كان يقولون: لو فرضنا أن هناك آخرة سنكون نحن من المقربين, ونكون نحن؛ لأننا هنا في الدنيا عظماء {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}(الكهف: من الآية36).
في يوم القيامة لا تكون شفاعة إلا لمن ارتضى، ولا شفاعة إلا لمن يأذن، فمن يشفعون هم أولياؤه، هم أنبياؤه، هم من هم في طريقه الذي رسمه، وليسوا ممن يفرضون أنفسهم عليه، {وَلا يَشْفَعُونَ}أيضاً {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}(الأنبياء: من الآية28).
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}أي: عندما يقول لك: ليس هناك من يشفع إلا بإذنه أنه يعلم فعلاً أنه لا أحد يشفع إلا بإذنه هو {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} هو يعلم حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(البقرة: من الآية255)، هو الذي أحاط علمه بكل شيء، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
أي لا تقل: ربما الله قال أنه لن يشفِّع أحد إلا بإذنه، لكن هذا ربما يكون الباري هو قد بدا له شيء لأنه عاد باقي مسافة إلى القيامة، وعاد باقي زمان طويل, وباقي كذا.. احتمال.., هو يقول حتى لو كررت هذه الآية حتى مع الملائكة في مجال الشفاعة، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} في أكثر من آية في القرآن يقول أنه يعلم ما سيقع، ويعلم الحدود التي لا يمكن أن يتجاوزوها، والصلاحية في مجال الشفاعة التي تعطى لهم فقط، ولمن تعطى فقط، فلا يتخلف الواقع عما علمه يوم القيامة.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}(البقرة: من الآية255) يقال: علمه، ويقال: ملكه، معنى كلمة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وأظهر ما تكون أنها بمعنى علمه بعد أن قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(البقرة: من الآية255) لأنه هو من أحاط علمه بالسماوات والأرض {وَلا يَؤُودُهُ} (البقرة: من الآية255): لا يثقله، لا يتعبه، لا يشق عليه {حِفْظُهُمَا} حفظ السماوات والأرض {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا}(فاطر: من الآية41).
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة: من الآية255) أنت إذا ما كنت متولياً له فهو العلي، هو القاهر فوق عباده، هو العزيز, وهو العظيم، العظيم في شئونه، العظيم في أفعاله، العظيم في كماله، فهو من هو جدير بأن يتولى، من هو جدير بأن يعبد.
وأنت ترى هذه الآية كثير في القرآن الكريم التي تتحدث من مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(آل عمران: من الآية6) يتحدث عن: هو الذي يصورنا، هو الذي ينزل المطر لنا، هو الذي ينبت الزرع لنا، هو الذي.. كثيرة في القرآن هذه، لاحظ كم تتكرر {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}أليس يكرر هذه في القرآن الكريم؟ {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران:6) تعبير عن ملكه لنا، ونفاذ أمره فينا؛ لأنه هو الذي يصورنا ونحن ما نزال في أرحام أمهاتنا، كيف يشاء؛ لأنه إلهنا هو إلهنا, من يملك التصرف فينا، بتدبيره وتشريعه وهدايته.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18). لاحظ كم تتكرر عبارة:[لا إله إلا هو] ليتقرر في نفوسنا في أعماق قلوبنا ألوهيته، تتقرر ألوهيته في أعماق قلوبنا، في نفوسنا، وتترسخ بشكل صحيح أنه وحده إلهنا، فنرفض ما سواه، نرفض كل من يقدم نفسه كإله لنا، نرفضه.. الله هو وحده إلهنا، فهو الشاهد على وحدانيته, والملائكة تشهد, وأولوا العلم بأنه القائم بالقسط في عباده, في خلقه، والقسط: هو العدل.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هو العزيز الذي لا يمكن لأحد أن يغالبه فيرد ما شاء نفاذه من أموره، وهو حكيم في أفعاله, في تدبيره، في تشريعه.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران:62) ألم تتكرر هذه المفردات التي تدل على كمال الله سبحانه وتعالى؟ من مثل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة: من الآية255). {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}فأنت عندما تتولاه هو العزيز، أنت توليت من لا يقهر، وهو الحكيم أنت توليت من يكون تدبيره فيك، من يكون عملك له كله قائماً على الحكمة، كله لا حماقة فيه, لا عبث فيه، لا جهالة فيه، لا خطأ فيه, فهو حكيم، فإذا ما دبرك إنما يدبرك إلى ما هو حكمة، إذا ما أرشدك إنما يرشدك إلى ما هو حكمة، فهو عزيز حكيم.
وعادة ما يحصل بالنسبة للإنسان عندما يلمس لنفسه في هذه الدنيا عزة وهيمنة أن تنطلق منه الأعمال العشوائية, والتوجيهات العشوائية التي تعكس جبروته، أما الله سبحانه وتعالى فهو حكيم ليس هناك حماقة، ليس هناك توجيهات هكذا، أوامر بحماقة وعبث لا يهمه إلا أن تنفذها قُبَلْ، نَفِذْ! هو حكيم, كلما دبرك إليه، كلما وجهك إليه كلما أمرك به هي أوامر حكمة، توجيهات حكمة، إرشادات حكمة.. أي لنثق به.
لاحظ.. نحن تقريباً لا نثق عندما قال الله للمسلمين وهو يتحدث معهم عن الجهاد, ويرشدهم إلى الجهاد, وأنه تجارة تنجيهم من عذاب أليم, وأنه كذا وكذا، عندما قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(التوبة: من الآية41) ما هو هذا الخير الذي تذهب ليرموك بالرصاص!! كيف عبارات الناس هنا يقولوا كيف ان هذه حكمة!!؟ لا, هذه حكمة، حكمة, أوامر حكيمة, فيها رحمة لك، وفيها خير لك، وفيها شرف لك.
حتى وإن كانت الجنة بيده، هو لم يأت ليرسم توجيهات معينة يقول: امشوا عليها, من مشى عليها… مثل المسابقات التي يعملونها في التلفزيون، أو المسابقات في المدارس.. من يمشي على هذه نحن سنعطيه الجنة، والذي لا يمشي عليها سندخله النار.. هكذا أوامر معينة, وتوجيهات معينة وبس.. بدها سبرت والا ما سبرت, يعني فيها خطأ والا ما فيها خطأ.. لا. الله هو الحكيم, هو الحكيم في كل شيء، فكل توجيه من توجيهاته، كل إرشاد من إرشاداته، كل أمر من أوامره، كل نهي من نواهيه هو ينطلق بحكمة، ينطلق من الحكيم سبحانه وتعالى. والحكمة ما هي؟ وضع الشيء في موضعه، أن هذا هو وحده الذي فيه الصلاح لك، لا غيره, هو وحده الذي فيه الفلاح لك، لا غيره، هو وحده الذي فيه نجاح وفوز لك لا غيره.. وضع الشيء في موضعه, لا يصلح إلا هو.
لم نثق بكثير من أوامره لأنها تبدو وكأنها شاقة، فنقول: ما لها يبدو وكأنها ما بلى أمرنا كذا قُبَلْ؟! لكن حتى عندما يأمرنا لاحظوا؛ لأنه يأمرنا وهو في نفس الوقت الحكيم الرحيم أيضاً، متى ما أمر بشيء وبدا لنا شاقاً فهو يضع في تشريعاته, وفي المنهج التربوي لكتابه الكريم يضع الأشياء الكثيرة التي هي سهلة في متناولنا فتجعلنا بالشكل الذي يمكن أن نصل إلى هذا الشيء الذي يعتبر مستبعداً أمامنا، يجعل تشريعه بالشكل الذي يهيئ بعضه لبعض ويخدم بعضه بعضاً، ويسهل بعضه تطبيق بعض.
ومع أن تشريعه حتى لو لم يكن وراءه جنة، كل ما هدانا إليه في كتابه الكريم حتى لو لم يكن وراءه جنة لكان هو وحده المنهج الصحيح الذي لا تستقيم حياة البشر إلا به، ولا تستقيم الدنيا إلا بالسير عليه، حتى ولو فرضنا بأنه ليس هناك جنة. أما عندما تكون المسألة بأن ما هدانا إليه هو وحده الذي لا منهج أقوم منه, ولا شيء أفضل للحياة، وفي الحياة منه ثم يثيبنا عليه، ثم يعطينا الجزاء العظيم عليه، هذا هو من أبلغ مظاهر رحمته، من أبلغ دلائل سعة رحمته لعباده.. أنك لا تكاد تجد شيئاً مما أرشد إليه في كتابه الكريم إلا وهو يؤكد أن فيه صلاح الحياة، هنا في الدنيا؛ لأنه هو الذي خلق الدنيا, وخلق الإنسان, وهو الذي يعلم السر في السموات والأرض.. إذاً فلماذا – أيضاً – يضيف إلى هذا أجراً كبيراً وفوزاً كبيراً، ويمنحك الجنة في الآخرة، النعيم الأبدي، النعيم العظيم، والدرجات العالية في الجنة.. أليس هذا من سعة رحمته؟.
ولهذا قال الله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:107)، أنهم في مواقفهم هذه في الدنيا التي تبيض وجوههم هي مواقف لا بد منها في أن لا يظلموا, ولا يقهروا، ولا يذلوا، وأن يعيشوا أحراراً في الدنيا، وأن يعيشوا كرماء وأعزاء وأقوياء، وتسعد حياتهم, فتصبح الجنة زيادة خير بالنسبة لهم، فسماها رحمة {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} (النساء:87) كثير تتكرر كلمة:[لا إله إلا هو] من أجلك تقنع أنه لا يوجد لا كذا ولا كذا, لا مفر ولا ملجأ، لا من يُلْجَأ غيره, ولا من تلتجئ إليه غيره، وهو هو، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، ومن الذي يستطيع أن يتهرب عن الحضور يوم القيامة.. {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ} (القيامة:10-11) لا يوجد مفر.. تقوم من قبرك {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يّـس:52).
{لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه.. وهذه حقيقة مهمة الإنسان إذا ذكر نفسها بها ليقرر نفسه بها أنني لا بد أن أموت لا بد أن أبعث لا بد أن أحشر أنا فلان بن فلان, الذي بيتي في محل كذا، بالتأكيد لا بد أن أحشر يوم القيامة. نسيان يوم القيامة حالة خطيرة على الإنسان؛ ولهذا كررت في القرآن الكريم بشكل كبير، نسيان يوم القيامة غفلة شديدة، تنسيك عن الإعداد لهذا اليوم، تؤمِّن نفسك في الدنيا فلا تعيش الخوف من القيامة؛ فتحشر يوم القيامة خائفاً.
{لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه، لا بد منه لكل شخص، لكل شخص لا بد أن يحشر {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} (مريم:93-94) واحد.. اثنان.. ثلاثة، كل إنسان, يعرف كل واحد، وسيحشر كل واحد لا ينسى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (مريم:95) فرداً، فرداً كلهم، لا ينسى أحد, ولا يبقى قبور هناك لا أحد منها يطلع، نسيوهم! أبداً {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر:68) كل من في السماوات ومن في الأرض، {لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه.
هذا اليوم يوم القيامة هل هو عبارة عن اجتماع عام, وحفل عام؟ أو يوم ماذا؟ يوم الفصل {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} (النبأ:17-18). جماعات, تساقون إلى الحشر، سماه يوم الفصل, يفصل فيما بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، يفصل فيبين كل القضايا التي كان الناس فيها يفرطون؛ فيتجلى هناك عظم تقصيرهم، يتجلى هناك سوء آثار أعمالهم، آثارها السيئة البالغة السوء، يتجلى لك تفريطك فترى كيف كنت غافلاً، ترى ما جره تقصيرك، ترى ما جرته جهالتك، حتى تساق إلى جهنم، وأنت ترى بأنك أصبحت مستحقاً لجهنم.. عندما يقول الملائكة عندما تساق إلى جهنم فيقال: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ}(الأنعام: من الآية30).
حتى الملائكة يبدو أنها تستغرب جداً والناس مزدحمون على أبواب جهنم {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى}(غافر: من الآية50) إلاَّ كانوا يأتوننا بالبينات! {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(الزمر: من الآية71) هذه ليست من كلمات الكافرين هي من قبل الله سبحانه وتعالى، بلى والله كان بيجينا كل شيء، ويعطونا كل شيء، وأرشدونا إلى كل شيء لكن كنا ننسى، وكنا نتناسى، وكنا نهمل، وكنا لا نبالي، وكنا نقول: يمكن ما هو صحيح.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}(النساء: من الآية87) هل هناك أصدق حديث من الله؟ ما هذه واحدة من العبارات التي تخاطب أعماق نفسك؟ لتؤمن فيكون إيمانك صادقا أنه ليس هناك أصدق من الله حديثا.. لتأخذ هذه العبارة, لتأخذ هذه الآية فتكتبها في جدار قلبك، فتجد في الآيات الأخرى عندما تجد وعود الله، ووعده ووعيده، تجد فعلاً أنه ليس هناك أصدق من الله حديثاً، ومن أصدق من الله حديثا؟.
عندما يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}(لأنفال: من الآية60) فكن أنت في نفسك مرسخاً: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثا}. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج: من الآية40) ما هذا وعداً إلهي مؤكد؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثا}. {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} (آل عمران:111) أليس هذا وعداً؟ فقط يطلب منك إيمان يجعلك أنت تخاطب نفسك بأنه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد:7) ماذا أقول أمام هذه؟ فعلاً أثق؛ لأنني أعلم أنه ليس هناك أصدق من الله حديثا.
وهكذا تأتي إلى آيات الوعد والوعيد بالنسبة للآخرة, {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طـه:124) أليس هذا قول من قول الله؟ أليس هو حديث من حديث الله سبحانه وتعالى؟ أليس هو وعيداً؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثا}.
نحن نريد أن نصل إلى هذه الدرجة، إلى درجة أن ننظر إلى كل وعد من وعود الله، إلى كل وعيد من وعوده، بأنه يأتي ممن؟ ممن ليس هناك من هو أصدق منه حديثا.. والأصدق حديثاً أنه من لا يأتي الواقع أبداً متخلفاً عما أخبر به عنه، الذي لا يتخلف إطلاقاً. المصداقية هي بالنسبة للواقع أن يكون متحققاً {لا رَيْبَ فِيهِ}، لا شك في تحققه، فعندما قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}(النساء: من الآية87) ما هو يخبر عن واقع سيحصل؟ يوم إسمه يوم القيامة، ويجتمع الناس فيه، أليس هذا إخباراً عن واقع سيحصل؟.
طيب.. الخبر قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً باعتبار الواقع عندما يأتي الواقع متخلفا عنه فيكون غير صادق، الصدق هو: أن يكون الواقع وفقاً لما أخبر به عنه.. فمن أصدق من الله حديثا؟ لأن هذا كلام لا يتخلف وواقع لا يتخلف، لأن من يقول هذا هو من يعلم الغيب والشهادة، ومن يقول هذا هو من يفعل هذه الأشياء هو، وهو العزيز، وهو الحكيم، وهو الملك، وهو القاهر فوق عباده، ليس إخباراً بأن هناك إله آخر سيعمل يوماً يسمى يوم القيامة ثم يمكن أن هذا الإله الآخر يتكاسل فلا يعمل شيئاً.
الله يخبر عن أفعاله هو ما سيفعل، وما أخبر عنه من أفعاله فلن يتخلف، {لا رَيْبَ فِيهِ}(البقرة: من الآية2) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}.
يوم القيامة لو ترسخ في نفوسنا الخوف منه، يوم شديد الأهوال يوم وراءه جهنم، إذا لم يكن الإنسان هنا في الدنيا متنبهاً متيقظاً متذكراً يحذر، يخاف وهو لا يزال هنا في الدنيا يوم القيامة لا يجد مخرجاً، لا يجد شيئاً يمكن أن يفدي نفسه به، ولا تقبل منه حتى لو ملك ما يمكن أن يفدي نفسه به، لا يقبل منه. في الدنيا هنا متى ما تأزمت على الإنسان حتى وهو في السجن يمكن يدِّي خمسة آلاف أو عشرة آلاف وأخرجوه، أما هناك لا تقبل فدية ولا تقبل رهينة بدلك، هنا في الدنيا يمكن إذا سجن واحد أن يعطي رهينة بدله ويخرج، أو يداول بينه وبين رهينة أخرى، أو يعطي فلوس ويخرج، أو يحصل على وسيط ويخرجه، أما هناك لا يمكن {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر:38) {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}(طـه: من الآية15) تجزى كل نفس بما تسعى.
ما الذي ينسينا عن يوم القيامة؟
هي أشياء تتوالى: قلة معرفتنا بالله يؤدي إلى نقص في خوفنا منه، إلى ضُعف في خشيتنا منه، فيؤدي هذا إلى غفلة ونسيان، تؤدي الغفلة والنسيان إلى غياب حالة الخوف من يوم القيامة، ومتى ما ذكِّر الإنسان أحيانا تذكر، أو رأى ميتا تذكر, أو سمع مرشداً، أو استعرض سورة من سور القرآن الكريم تذكر, لكن ويحاول أن يعيد إلى ذهنيته الحالة السابقة, حالة اللاشعور بشيء من هذه الأشياء، غفلة.
فمن يعرف الله سبحانه وتعالى معرفة كافية لا بد أن يخشاه، لا بد أن تعظم خشيته منه، وتعظم أيضاً رغبته فيـه، فيكون دائماً متذكراً، متذكراً يحرص على أن يعمل في هـذه الدنيا ما يقربه إلى الله، ويحصل يوم القيامة – من خلال عمله هذا وبرحمة الله – على الفوز بالجنة، وعلى أن يحاسب في يوم القيامة حساباً يسيراً، فيكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأنه متذكر للقيامة، تذكر القيامة له أثره العظيم جداً، جداً في المجالين: في مجال أن تنظر من الأعمال إلى ما فيه نجاتك يوم القيامة فتنطلق فيه، وتبتعد عن الأعمال أو عن التقصير الذي فيه هلاكك يوم القيامة فتبتعد عنه.
يوم القيامة خوَّف الله به عباده في القرآن الكريم تخويفاً شديداً؛ لأنه يوم شديد الأهوال في حد ذاته، وفيه حساب عسير جداً للظالمين، حساب عسير جداً للمعرضين عن ذكر الله، حساب عسير جداً لمن لم يكونوا يهتدون بهدي الله.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ}(الحاقة25) في [سورة الحاقة] يتحدث عن من أوتي كتابه بيمينه، وعمن أوتي كتابه بشماله، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (الحاقة:19-22) بالنسبة لمن يؤتى كتابه وراء ظهره ماذا يقول؟ {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}(الحاقة:25-27) ليت أن تلك الموتة الأولى هي القاضية فلا أبعث ولا أحشر {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة:29) السلطان الذي كنت فيه، أو السلطان الذي كنت ألتجئ إليه في الدنيا هلك عني. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة:27-28). مالي لم يغن عني، لم يدفع عني شيئاً، الذي كنت أجمعه في الدنيا, وأحرص على جمعه من حلال ومن حرام، وكنت أبخل أن أصرف منه وأنفق منه في سبيل الله لم يغن عني شيئاً، لم يدفع عني شيئاً.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}(الحاقة:30) يقال للملائكة: خذوه فغلوه، وكانت هذه الآية من الآيات التي يصرخ منها الإمام علي (عليه السلام) وهو يتأوه، يتصور خطورة الموقف عندما يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}. قال: (فيا له من مأخوذ…) يا له من مأخوذ!! حالة شديدة جداً، وحالة رهيبة جداً، عندما يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (الحاقة:30-37). كان في الدنيا لا يؤمن بالله العظيم.
نحن نؤمن بالله، أليس كذلك؟ لكن كيف هذا الإيمان؟ إيمان لا يساوي شيئاً، الإيمان بالله الذي يجعلك تخاف غير الله أكثر مما تخاف من الله ليس إيماناً بالله، الإنسان المؤمن بالله هو من يكون خوفه من الله أعظم من خوفه من غيره، هو من يكون رجاؤه في الله أعظم من رجائه في غيره.. المؤمن بالله هو من يعيش دائماً حالة التذكر لله، الحرص على رضا الله، الخوف من بطش الله، الرغبة فيما عند الله. الإيمان بالله هو إيمان عملي يبعث – متى ما كان إيمانا صادقاً – هو يبعثك على العمل، يبعث في نفسك الخوف، يبعث في نفسك الرجاء، يبعث في نفسك الرغبة.
أما إيمان من هذا النوع مجرد تصديق، نحن نقول: كان الكافرون مؤمنين بالله على هذا النحو، ألم يكونوا مؤمنين بالله؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}(الزخرف: من الآية87) كان الجاهليون يؤمنون بالله بمعنى أنهم عارفون بأن هناك إله اسمه:[الله]، هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي يدبر شئون السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر، وهو الذي… يؤمنون بكل هذه الأشياء.. هم كانوا مؤمنين بهذه، فقط كانوا يقولون: لا، ليس وحده، بل هناك آلهة أخرى.
إذا ما أصبح إيماننا في واقعه كإيمان الكافرين، أي: إيمان بمجرد وجود الله، وليس وراء هذا الإيمان أي شيء في نفوسنا، في واقع حياتنا، فعلاً يكون الناس ممن لا يؤمنون بالله العظيم، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة:34) كان في الدنيا بخيلاً، ولا حتى يحث الآخرين على إطعام المسكين؛ لأنه لضعف إيمانه بالله، أو لانعدام إيمانه بالله لا يتذكر مسألة ثواب فيرجو من عمله هذا ما يقربه إلى الله, ويحصل على الأجر عند الله. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}(الحاقة:35) أي مقرَّب في القيامة يمكن أن ينفعه، {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(الحاقة:36-37) ويقال: أن الغسلين هذا هو: عصارة أهل النار من القيح والصديد.. نعوذ بالله.
يوم القيامة.. يجب أن نتأمل كثيراً في كتاب الله، فنرجع إلى القرآن كم ورد في شرح تفاصيل ذلك الموقف الرهيب، كيف تناول القرآن الكريم الحديث عن جهنم، حتى صورها وقدمها بصورة كاملة، تشخيص كامل لجهنم حتى كأنك تراها، تحدث عن وقودها، تحدث عن لهبها، تحدث عن شررها، تحدث عن أهلها وهم يصطرخون فيها، تحدث عن أبوابها، تحدث عن مغالقها، تحدث عن دخانها عن طعامها، عن شرابها، تصوير كامل.
لو تأت أنت.. أي واحد منا يحاول أن يجمع ما ذكره القرآن الكريم من الآيات في جهنم، ثم ضعها في ورقة تكون أمامك ترى كيف تتصور جهنم, وتراها صورة متكاملة، تبرز لك صورة ذهنية من خلال هذا التشخيص القرآني في آيات متعددة.
إذا ما عرفت أن جهنم هي هذه المهولة الشديدة، وأيقنت بأن هذه جهنم هي التي من دخلها لا يخرج منها أبداً {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} (الانفطار:11-16) خلود.
كان أحد العلماء – وقد مات قبل فترة رحمة الله عليه – قالوا عنه: كان ينظر إلى مسألة الخلود في جهنم هذه ويقول هي وحدها الشيء الذي يخيف.. الخلود في جهنم هو الشيء الذي يخيف جداً. لو أن البقاء في جهنم حتى ألف سنة، خمسة آلاف سنة، وهناك أمل في الخروج منها لكانت المسألة ما تزال هينة، لكن الخلود – نعوذ بالله من الخلود في قعر جهنم – وهو الشيء الذي تؤكده الآيات الكريمة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}(النساء: من الآية57) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}(المائدة119) {خَالِداً فِيهَا}(النساء: من الآية14) الخلود معناه: أن تمر آلاف السنين {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ:23) أحقاباً متتابعة، آلاف السنين، مليون سنة، مليونين سنة، مليار سنة، الخلود في جهنم – نعوذ بالله – هي الحالة المزعجة.
ولهذا تجد الآخرين من عبيد الدنيا كيف يحاولون أن يتهربوا عن الخلود في جهنم فينطلقون إلى الشفاعة لأهل الكبائر، أو البقاء في جهنم فقط بمقدار ما عمل، أو أشياء من هذه يدل على فهم مغلوط للقرآن الكريم ولمنهجية القرآن الكريم في حديثه عن العقوبات بما فيها النار.. قالوا: أنت لن تقعد في الآخرة, في جهنم إلا بمقدار ما عملت!.
ليست المسألة على هذا النحو، أنت عملك هو الذي أوصلك إلى جهنم حقيقة، لكن ماذا؟. هل تظن بأن الأعمال تُسطَّر ثم ينظر إلى كم يساوي، كم العقوبة اللازمة على هذا العمل الفلاني، ثم يضاف هذا إلى هذا ثم ينظر كم ستبقى؟!.
إن المسألة من أساسها هو أنك عندما تعرض عن هدي الله – كما قلنا في جلسة سابقة – عندما تعرض عن هدي الله تتحول إلى إنسان خبيث، هل تعلمون أن كل معصية ليس فقط ينظر إليها من خلال أنها مجرد اقتراف لعمل في خارج إطار شخصيتك، كل معصية تترك أثراً على نفسك، كل معصية ترسخ نسبة من الخبث في نفسك، وهكذا واحدة بعد واحدة حتى تحيط بك خطيئاتك، فتصبح خبيثاً، تصبح خبيثاً فعلاً.
الله في يوم القيامة تحدث بأنه سيكون تمييز الناس على أساس خبيث وطيب في الأخير، أهل المحشر يتميزون إلى فريقين فقط: خبيث, وطيب، الخبيث كله يجمعه فيركمه فيجعله في جهنم جميعاً، يجعل الخبيث مقره جهنم.
ولأنه فعلاً المسألة هي مرتبطة بهذا هو بخبثك أنت، أصبحت إنساناً خبيثاً، ليست المسألة فقط أعمال اقترفتها ينظر إليها من خلال أنها أشياء في خارج إطار شخصيتك، لا؛ بل لأنها قد تركت أثرها الكبير في نفسك حتى أصبحت خبيثاً إلى درجة أن جهنم لو تبقى فيها مليار سنة ثم تخرج لعدت إلى ما نهيت عنه سابقاً، ألم يقل الله عن أهل النار {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}(الأنعام: من الآية28)؟ لماذا؟؛ لأن نفوسهم قد خبثت، نفوسهم أصبحت خبيثة، فإذا ما خرجوا ما هم قد نسيوا الأعمال السابقة، وقد جلسوا حتى مليار سنة في جهنم؟ لكن النفوس كانت قد بلغ بها الخبث درجة أن جهنم لا يمكن لجهنم نفسها أن تطهرها فتحولها إلى نفوس طيبة فعلاً.
ولهذا الله يحذرنا عن قسوة القلوب، قسوة القلب {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}(الحديد: من الآية16) نحضر كل يوم الخميس، نحضر كل ليلة، نحضر كل جمعة، وكل مناسبة، وكل كلمة نعود منها بعدما نسمعها مثلما ذهبنا إليها، يصبح هذا مجرد روتين تسير وتجي مثل طلاب المدرسة، يسرح ويجي, يسرح ويجي.. تجي تنظر إيش معه قد هو في صف سادس فتراه لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب!.
حالة الروتين هذا المتجدد، حالة أن تسمح لنفسك تسير وتجي, وتجي وتضوي مثلما جئت، وهكذا يجي غد مثل اليوم وبعد غد مثل غد، هذه نفسها حالة تساعد على ماذا؟ أن تصبح الكلمات لا أثر لها في نفسك، فيقسو قلبك؛ لأنك تترك للأشياء الأخرى المجال لأن تترسخ في نفسك، لأن تعمل على أن يقسو قلبك.
والمواعظ أنت التي تريد أن تسمعها اليوم ليست غير التي سمعتها أمس، والذي سمعته ثالث يوم هو الذي سمعته أول يوم، وهكذا.. تصبح المسألة هكذا عندك، حتى يقسو قلبك فلا يعد شيء ينفعك، لهذا قال الله عن المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ – زادتهم – إِيمَاناً}(لأنفال: من الآية2). وأنت ترى نفسك بأنك لا تزيد إيماناً من كل كلمة تسمعها حتى ولو من طفل, لا تزداد إيماناً من كل كلمة تسمعها فاعرف بأنك متعرض للخطورة التي تعرض لها بنوا إسرائيل، أنه سيطول عليك الأمد, وهكذا كلمة بعد كلمة وأنت لا تزداد إيمانا فيقسو قلبك، وتخبث نفسك وحينئذ لا ينفع فيك شيء.
يجب – أيها الإخوة – أن نعمل على أن نكون من هؤلاء المؤمنين، الذين نحاول ولنقهر نفوسنا أن نفرض على أنفسنا أن نزداد إيماناً من كل آية نسمعها من آيات الله تتلى علينا، من كل تذكير نسمعه بالله لنا، أن نزداد إيماناً، إفرض على نفسك أن تزداد إيماناً، إفرض على نفسك أعمالاً تنطلق فيها، روِّض نفسك، وعوِّد نفسك على أن تعمل، وأن ترسخ في نفسك الإيمان، وتزداد إيماناً خوفاً من أن تصبح الأشياء لا تنفع فيك، ثم في الأخير يقسو قلبك {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}(البقرة: من الآية74) من بعد تلك الآيات.
هذه حالة خطيرة جداً يتعرض لها الإنسان، حتى بعد الآيات القاهرة، مثلما حصل لبني إسرائيل عندما نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، وعندما رأوا آيات من هذا النوع المزعج، رجع الجبل، رجعوا لذياك المسبك الأول، النفس هي النفس، قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
ويمكن أن نفسر هذه الحالة التي نحن عليها أن القرآن الكريم الذي قال الله عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(الحشر: من الآية21) أن قلوبنا ربما تكون قد أصبحت أقسى من الحجارة.
إذاً فلنعمل على أن تلين {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}(الحديد: من الآية16). يحاول كل واحد منا أن يعرض في قائمة واحدة ما ذكره الله عن جهنم، واعرض في قائمة أخرى ما ذكره الله عن الجنة، اعرض في قائمة ثالثة أهوال يوم القيامة وسترى الشيء الذي يزعجك، الشيء الذي يخيفك، الشيء الذي يشد رغبتك، عندما ترى الجنة وما ذكر الله عن أوصافها، وما وعد المؤمنين فيها من النعيم العظيم والدرجات العالية. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}(النساء: من الآية87)، فلنحاول أن نستعرض يوم القيامة – من خلال القرآن – على الشكل هذا الذي ذكرناه عسى أن يساعد هذا الأسلوب في أن تخشع قلوبنا لذكر الله، في أن نقاوم القسوة التي في القلوب، في أن نزداد إيماناً من كل ما نسمع، في أن نزداد وعيا من كل ما نسمع فيكون إيماناً صادقاً.
وليس ممن قال الله عنه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} (الحاقة:33) وهو كان يحلف بالله في كل مقوات، ويحلف بالله على كل سلعة يبيعها، ويحلف بالله بعد كل مَجْبَر يقوله من أجل أن يصدقه هذا أو هذا.
نحن بحاجة إلى إيمان راسخ, إلى إيمان واعٍ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام:19) {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أعظم شهادة، هي شهادة الله، شهادة الله على توحيده، شهادة الله على صدق وعده ووعيده، شهادة الله على أنه سينجز ما وعد به أولياءه، شهادة الله بأنه رحيم بعباده فكل ما يرشدهم إليه, ويهديهم إليه هو من منطلق رحمته، شهادة الله بأنه القائم بالقسط، ويريد منك أن تكون من القائمين بالقسط لتكون من أوليائه؛ لأن أولياءه هم من ينطلقون في الحياة وفق هدايته.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}(آل عمران: من الآية18) ثم يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}(النساء: من الآية135) كونوا قوامين بالقسط كما أن الله هو من هو قائم بالقسط، ودبر شئون هذه الحياة على أساس القسط.
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام: من الآية19) ومن بلغه هذا القرآن، فهو نذير لكل البشر جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة، وفيه ما يكفي من المواعظ، فيه الإنذار الكافي، الإنذار عن عواقب الإهمال في الدنيا، عن عواقب التفريط في الدنيا، عن عواقب المعاصي في الدنيا، عن عواقب نسيان الله حتى هنا في الدنيا، والإنذار عن العاقبة الشديدة في القيامة من شدة الحساب، وعن العذاب الشديد في جهنم {لِأُنْذِرَكُمْ بِه}.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام:102) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158) {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة:129) {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(هود:14).
كم تتكرر هذه العبارة: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ثم ينطلق ليتحدث عن أي شيء كما قال هنا: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(هود: من الآية14). أي: مسلِّمون أنفسكم له باعتبار أنه: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فليس هناك إله آخر يمكن أن تسلِّموا أنفسكم له، أو يدفعكم اعتصامكم بذلك الإله الآخر إلى أن لا تسلموا أنفسكم لله، لا إله إلا الله وحده فهو الذي يجب أن تسلموا له أنفسكم, وتعبدوا له أنفسكم.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}(الرعد: من الآية30)، وهو القرآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}(الرعد: من الآية30). هكذا يكون أنبياء الله، وهكذا يكون أولياء الله، يتوكلون على الله من منطلق إيمانهم القوي بالله، وثقتهم القوية بالله.
{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ}(إبراهيم: من الآية52) القرآن الكريم بلاغ للناس {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(إبراهيم: من الآية52)، لاحظ كيف التركيز على أن يجعل {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}(ابراهيم: من الآية52) من أهم المقاصد القرآنية، هو رابع غاية من الغايات الأربع في هذه الآية، وهو الغاية الكبرى داخل هذه الغايات الأربع {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} نعلم في قرارة أنفسنا ما هو مجرد خبر نسمعه يطرق آذاننا فقط، بل نعلم في قرارة أنفسنا أنما هو إله واحد، هو الله، فلنعبِّد أنفسنا له، ولنلتجئ إليه، ونتوكل عليه، ونثق به، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2)، موضوع هذا الدرس هو حول فهم ألوهية الله سبحانه وتعالى، تترسخ في أذهاننا مسألة ألوهية الله، ماذا تعني؟ متى ما آمنا بأنه هو وحده إلهنا – إيماناً واعياً وليس فقط مجرد كلام – سنتقيه، سنسلِّم أنفسنا له، سنثق به، سنتوكل عليه، نلتجئ إليه، نرغب فيه، نخاف منه.
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (النحل:22) {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:110)، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طـه:8) {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (طـه:98).
ولأهمية الإيمان بألوهية الله على هذا النحو، تصبح كلمة الإقرار، هذه الكلمة في الوحدانية هي بطاقة الدخول في الإسلام، وهي الذكر الذي يجب أن يردده الناس جميعا، وهي الذكر الذي يجب أن يتردد في الأذان، وهم يؤذنون وينادون للصلاة، كلمة:[لا إله إلا الله] وداخًل الصلاة [أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] هي الشهادة التي تدخلك في الإسلام، وهي الشهادة التي تشهد بها وأنت في اللحظات الأخيرة من عمرك، فأنت تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
الشهادة بوحدانية الله سبحانه وتعالى لأهميتها هي التي تجعلك تكفر بكل من يبرز لك إلها في هذه الدنيا غير الله، وإن كان هوى نفسك.. قد يبرز الهوى إلها لك، ويبرز الخوف إلها لك، ويبرز الطواغيت آلهة لك، وتبرز الدنيا إلها لك، وتبرز المطامع كلها آلهة لك.. فعندما تكون مقرراً في نفسك ألوهية الله وحده، فسوف تقهر كل من يبرز في هذه الدنيا إلهاً آخر غير الله لك.
ألم يقل الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}(الجاثـية: من الآية23) أنت أيها الإنسان يمكن أن تتخذ هواك تجعله إلهاً لك، كذلك من تطيعه من دون الله فأنت قد عبَّدت نفسك له، من تطيعه في معصية الله تصبح قد عبدت نفسك له، فكأنك اتخذته إلها. ألم يقل الله لبني آدم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يّـس:60) سمَّا طاعتهم للشيطان عبادة؛ لأنهم أطاعوه في معصية الله وكل من يوجب عليك أن تطيعه في معصية الله فقد جعل نفسه إلها لك، فإذا أطعته فكأنك عبدته، وكأنك جعلته إلها.
والإمام الناصر في [البساط] أكد هذه المسألة بشكل كبير، فيما يتعلق بتفصيل العبادة أنه جعل من ضمنها الطاعة، فمتى ما أطعت غير الله أصبحت مشركاً، جعله شركاً، تطيعه في معصية الله.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء:25) {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (الأنبياء:108). {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}(فاطر:3) من الذي يرزقكم؟ من الذي صوركم في الأرحام كيف يشاء؟ من الذي سخر هذا العالم لكم؟.. هو الله, هو الله.. الذي لا إله إلا هو.
أليس هذا يعني: أنه متجه إلى ترسيخ الإنشداد القوي به؟ واتصالك القوي به؟ وثقتك العظيمة به؟ {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} إذاً فعندما ترجع إليه، وتتوكل عليه، وتثق به هو من يملك رزقك، هو من يملك أن يرزقك، هو من يملك السموات والأرض، التي فيها ومنها رزقك.
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر:65) لا إله إلا هو فارجعوا إليه وادعوه مخلصين له دينكم، مخلصين له في الدعاء. الدعاء كما ورد بأنه مخ العبادة، لكن الدعاء إذا ما ترافق معه عمل، الدعاء الذي لم يترافق مع تقصير، وإنما مع عمل.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصلت:6-7). {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(محمد: من الآية19)، ألم يقل الله لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله): {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}(محمد: من الآية19)؟ ألم يكن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) عالماً بهذا؟ هو رسوله وقد اصطفاه، هو الذي يبلغ رسالة الإله الذي لا إله إلا هو، فما معنى هذه العبارة: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(محمد: من الآية19)؟.
يتقرر في نفسك دائماً بشكل واع، وهو مجال واسع جداً, ودرجات متفاوتة جداً ترسخ العلم بأنه لا إله إلا الله.
ألسنا جميعاً نقول: [لا إله إلا هو]؟ لكن هل علمنا بأنه لا إله إلا هو كعلم الإمام علي (عليه السلام)؟.. لا. هل علمنا بأنه لا إله إلا الله كعلم رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)؟ لو كنا نعلم أنه لا إله إلا هو لانطلقنا في هذه الدنيا صواريخ لا أحد يوقفنا أبداً، ولا أحد يخيفنا أبداً، ولا أحد يخدعنا أبداً، ولا أحد يستطيع أن يضلنا أبداً، ولا أحد يستطيع أن يقهرنا أبداً. لكنا نلاحظ بأن درجة علمنا بأنه لا إله إلا هو هابطة جداً، كلمة تصرفك عن من هو لا إله إلا هو وعن طريقه، ما هذا يدل على أنك تفقد العلم بكله، أو متدني جداً في علمك به؟.
أليس عندما ينقدح في نفسك خوف من غير الله فتتراجع يدل على أنك ضعيف في علمك بأنه لا إله إلا هو.
إن معنى لا إله إلا هو يرتبط بها كلما تقدم، وكلما يمكن أن تستعرضه في القرآن الكريم: هو الخالق، هو الرازق، هو الذي سيجمع الناس ليوم القيامة، هو الذي بيده النار، بيده الجنة، هو الذي وعد أولياءه بوعود كثيرة، هو صادق الوعد والوعيد، هو الرحمن الرحيم، هو عالم الغيب والشهادة، هو الذي يعلم السر في السموات والأرض، هو.. هو.. إلى آخره. فعندما تخاف من غير الله فعلاً يدل على ضعف، ضعف علمك بأنه لا إله إلا هو.
فنحن لو سردنا أياماً جلسات طويلة نرسخ في أنفسنا لا إله إلا هو، ولو سنة كاملة يترسخ في نفوسنا بشكل واع لا إله إلا هو، وكلمة: لا إله إلا الله لكانت السنة هذه قليل في مقابل ما نحصل عليه من ترسيخ معنى: لا إله إلا هو.
عندما يأتي شخص يعطيك مبلغ من المال، ويجندك ضد أولياء الله، أو يصرفك عن نهج الحق، أو تدخل معه في باطل، أليس هذا يدل على أنك لا تعلم أنه لا إله إلا هو؟ أنه لا إله إلا الله؟ فانصرفت عن نهج الله الذي وصف نفسه بهذه الأوصاف العظيمة، من له ملك السماوات والأرض، ورغبت في مبلغ زهيد من المال قدم لك من هنا أو من هنا مقابل ولاء معين، أو موقف باطل تدخل فيه، أو عمل باطل تقوم به، أليس هذا يدل على أنك لا تعلم بالله، ولا تؤمن بالله؟
فاعلم.. هكذا يقول الله لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله): {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهو من يعلم، لكنها لها عمقها, لها عمقها البعيد، البعيد، البعيد.
ما الذي يجعلنا ضعفاء، خائفين، متوجسين، غير صادقين مع بعضنا بعض، غير متعاونين على البر والتقوى, لا ننفق في سبيل الله، نفوس ضعيفة، نفوس مهزومة.. ما هو؟ أننا لا نعلم بما يريد الله منا أن نعلم أنه لا إله إلا هو، فهو من نرغب فيه، هو من نخافه، هو من نتوجه بتوجيهاته، هو من نقبل إرشاداته، لأنه لا إله إلا هو.
ولأن كل واحدة, كل واحدة مما أرشدك إليها يمكن أن تقول ورائها: لأنه لا إله إلا هو، أنا لن أخاف إلا هو لماذا؟ لأنه لا إله إلا هو، أنا لن أرغب إلا فيه، لماذا سترفض كل شيء وترغب في الله وحده؟ لأنه لا إله إلا هو، أي ليس هناك من هو جدير بأن أأله إليه فأرجوه، أو أخافه.. إلا من؟ إلا الله. عندما أثق به أعظم من ثقتي بغيره؛ لأنه لا إله إلا هو.
ولهذا كانت هي قاعدة عامة انطلق منها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، وَوُجِّه إليها {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
هل جاء بعدها بشيء؟ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} متى ما علمت أنه لا إله إلا هو فستجدها أمامك في كل موقف من مواقف الحياة، ستجدها هي من توجهك إلى الله، هي من تجعلك تعتصم بالله {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(آل عمران: من الآية101).
فلنعمل دائماً على أن نرسخ في أنفسنا: لا إله إلا هو، كم كنا نقرأ آيات، نحن نقرأها جميعاً ونمر عليها مرور الكرام، نأخذ عبرة من هذه إذا كنا في هذه الجلسة يبدو وكأننا نريد أن ننطلق في حديث آخر [هذا شيء معروف لا إله إلا الله، ولا إله إلا هو]! فخذ عبرة من أن يخاطب الله نبيه محمداً (صلوات الله عليه وعلى آله) وهو من هو في معرفته بالله فيقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لو علمنا ولو علم المسلمون معشار ما علمه رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) من أنه لا إله إلا هو لحلت المشكلة بكلها التي سببها أزمة الثقة بالله؛ لأن الله بدا لنا وكأنه ليس إلهاً، بل بدت آلهة أخرى نحن نأله إليها ونرفضه.
أصبحنا أسوأ من المشركين, أصبحنا في واقعنا في تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى أسوأ من المشركين! كان المشركون يعبدون آلهة متعددة ويعدون الله واحداً منها، فيرجوه ويرجوا هذا, ويرجوا هذا، وقد يكونون يرجون الله أكثر أما نحن أصبحنا في واقعنا – وهو الذي يدل على عدم ثقتنا بالله – أصبح عندما يقول الله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}(سـبأ: من الآية39) لا نثق به كما نثق بواحد منا عندما يقول: يا خبير اعطني ألف ريال وانا بَرده لك غد.. أليس كذلك؟ أليس هذا يدل على أننا لم نعد نتعامل مع الله – تقريباً – كإله إلا فقط نذكر مجرد اسمه شهادة على أنفسنا يعتبر حجة علينا يوم القيامة.
يعدنا الوعود الصادقة فلا نثق! لو يأتي علي عبد الله فيعدك يقول: تحرك وأنا وراءك ألست ستتحرك؟ لو يأتي فيقول لك: انطلق أنت وأنا وراءك ضد أمريكا وإسرائيل ألستم ستنطلقون بسرعة لتصرخوا؟ وتأخذوا بنادقكم وتتحركوا؟. لكن يقول الله.. والله خائفين من علي عبد الله، خائفين من فلان, خائفين من فلان إذا ما تحركنا ضد اليهود والنصارى، يعني هذا ماذا؟ أن ثقتنا بالله ضعيفة أي أننا لم نعد نتعامل مع الله كما نتعامل مع علي عبد الله! أصبح علي عبد الله في الواقع هو إله بالنسبة لنا نخافه ونرجوه أكثر مما نخاف ونرجو الله! أليس هذا هو الواقع؟ حتى في مقام الرغبة وما أكثر، وما أكثر ما ينحرف الناس بالترغيب والترهيب وسببه هو أنهم لم يترسخ في أنفسهم أنه لا إله إلا هو.
إذا كان الله قد قال لك أنه يمكن أن يكون هواك إله.. ما الذي سيعمل هواك أليس رغبات يشدك إلى رغبات معينة، هو نفسه ما يعمل الآخرون من خارج نفسك أنت تجعلهم آلهة عندما تخاف وترغب في مقابل ما خوفك الله منه ورغبك به، أليس الله هو الذي يملك الجنة, ونحن نؤمن بهذا؟ أليس هذا صحيحا؟ هو من يملك الجنة ونحن نؤمن بها، لكن متى ما أتت رغبات من آخرين من تجار, أو مسئولين, أو من أشخاص آخرين ننطلق وراءها ونترك الجنة ماذا يدل هذا عليه؟ يدل على أن إيماننا كله إيمان أجوف وسطحيات كلها هكذا، إيمان لا يتجاوز تراقينا لم ينزل إلى أعماق نفوسنا.
النار ألسنا نؤمن بها؟ والقرآن يعرضها دائماً يصورها لنا في تلك الصورة البشعة، يتحدث عن طعام أهلها: شجرة الزقوم، يتحدث عن ثمر هذه الشجرة: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} (الصافات:65-67).
بعض الناس وجبة واحدة دسمة على أيدي أحد الناس الذي هو في طريق باطل تصده عن الحق وجبة واحدة دسمة يؤثرها ولا يخاف تلك الوجبات المرة الشديدة التي تغلي في البطون كغلي الحميم، يؤثر تلك الوجبة الدسمة على تلك الوجبات العظيمة في الجنة. على ماذا يدل هذا؟ أليس هذا يدل على ضعف إيمان، ضعف إيمان فيمن؟ في الله الذي يملك الجنة والنار، أي: أننا ننطلق مع الآخرين فنتعامل معهم كآلهة، بل وأصبحنا لا نعد الله في تعاملنا معهم كإله. أليس الناس يخافون عندما يقول أحد: يجب أن يكون لنا موقف من إسرائيل من أمريكا، يجب أن نصرخ، يجب أن نحذر من أن يترسخ الرعب منهم في أوساط الناس، يجب أن نخاف من أن تسود كلمة: [إرهاب] فتصبح هي الكلمة التي تسيطر على أذهان الناس, فتصبح مبرراً سيئاً جداً أمام كل ولي من أولياء الله أن يضرب. يقول الناس: إرهابي ما على أبوه.
عندما نقول: يجب أن نتحرك ونصرخ في وجه أمريكا وإسرائيل ونلعن اليهود، ونرفع ذلك الشعار في كل مكان. يقولون: [نحن نخاف من الدولة، الدولة ستقوم ضدنا, نحن سنكلف على الناس, الدولة ستضرب الناس] إذاً أنت لم تعلم أنه لا إله إلا هو.. خذ هذه قاعدة وهي القاعدة التي أعطاها محمداً (صلوات الله عليه وعلى آله) كصمام أمان في كل موقف، متى ما برز الخوف أمامك فإنما يبرز كإله آخر، متى ما برزت المرغبات الأخرى لك لتتخلى فإنما تبرز كآلهة أخرى فاعلم أنه لا إله إلا هو, وتحرك هنا، اعلم أنه لا إله إلا هو واترك هذا، اعلم أنه لا إله إلا هو وانطلق منها .. هذه قاعدة مهمة.
ولنعمل جميعاً على ترسيخ هذه في نفوسنا بشكل كبير من خلال تأملنا لكتاب الله سبحانه وتعالى، ومن خلال دروس متتابعة لا قيمة لأي حديث إذا لم نحاول بكل جهد أن نتولى الله؛ لأنها هي أول خطوة {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:56) لا يمكن أن نتقافز على هذه وحدة، وحدة حتى نصل إلى عند {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} نتصور هذه، لا، وحدة، وحدة. نتولى الله.. كيف نتولى الله؟ حتى نرى أنفسنا عظيمي الثقة بالله، ثم انطلق إلى رسوله، ثم انطلق إلى الذين آمنوا, ثم ستصبح فعلاً أنت وإخوانك حزب الله, وستكونون أنتم غالبون.
بعض الناس, بعض الشباب متى ما تعلم وسمع من يقول: يا جماعة نحن يجب أن نتحرك، يجب أن نعمل، يقول: ماذا نعمل؟ خلونا مدروسين كذا.. لكن قل له: تعال اعرض لي وعيك، اعرض لي فهمك الإيماني، اعرض لي نظرتك إلى الدين ونظرتك إلى الحياة حتى أعرف بأنه قد ترسخ في داخل نفسك {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} فمتى ما تعرضت لمصائب لشدائد ستكون هينة عندك؛ لأنها جاءت من آلهة أخرى لا قيمة لها عندك، ولأنها أشياء بسيطة لا أثر لها عليك في مقابل ما تخافه من الله الذي لا إله إلا هو وهي جهنم، ثم المرغبات الأخرى.
أنت بعد لم تمر بمراحل فتجرب نفسك.. مرغبات تعرض عليك، ومرهبات تعرض عليك حتى نعرف مدى تمكن لا إله إلا هو في نفسك وتترسخ معنى: لا إله إلا هو في نفسك.
وهكذا القرآن الكريم عندما يحدثنا كيف نكون أنصاراً لدينه هو يؤهلنا في نفس الوقت، بدأ من توليه هو، لأنها ثلاثة أشياء نمشي فيها بشكل واع في تولينا، تولينا لله، تولينا لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله)، تولينا للإمام علي (عليه السلام).
ولا نكن مستعجلين ونحن نحضر دروس ترسخ إيماننا بالله نحن بحاجة إلى إيماننا بالله في كل مجالات حياتنا، نحن بحاجة إلى الإيمان بالله في هذا العصر أعظم من أي عصر مضى حتى لا نكون عرضة للمضلين، وافهم، اجعل هذه عبرة أن يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أصحاب علم الكلام يعتبرونها من الأدلة على وجوب النظر، هو أن يصل إلى اليقين! وهل كان رسول الله لم يصل إلى درجة اليقين بالله؟. رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هو عظيم الثقة بالله، يقينه بالله عظيم، لكن المسألة مهمة، المسألة واسعة الأعماق, واسعة الأعماق.
حاول أن تشغلها شهراً واحداً وانظر كيف ستصبح, حاول أن تأخذ ورقة في جيبك واكتب فيها: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وشغِلها شهراً وانظر كيف ستكون أنت.
أمام كل من يرغبك اعرض عليه واعرض على نفسك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وانظر كيف أنه لا أحد يستطيع أن يؤثر فيك أبداً. من يخوفك, من يرغبك, من ينصحك بأشياء أخرى قد تمسك بها لتعلم أنها بمثابة جيش لتشغل مشاعرك في كل مواقفك, في كل ميادين الحياة كلها: في مجال نصر دين الله، وفي مجال مقارعة أعداء الله، وفي مجال تحصين نفسك من أي ضلال.
افعل ذلك شهراً حتى تعرف أثرها، أو أسبوعاً واحداً تذكر نفسك بهذه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، لأنه عادة حتى ربما بعد كل درس نجلس فيه لا يأتي نصف الليل إلا والإنسان قد هبط كثير من روحيته التي كان عليها وهو هنا أو هنا في هذا المكان أو في تلك القاعة، يهبط [الأمبير] أي: أنها تحدث أشياء داخلية، يتوجه ذهنك إلى أشياء خارجية تؤدي إلى تأثير في هبوط معنوياتك وتأثيراتك النفسية من خلال ما سمعت، فلتشغل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} تتركك على حالة سليمة مستقيمة.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لرسوله (صلوات الله عليه وعلى آله): {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}(محمد: من الآية19).
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الحشر:23). صدق الله العظيم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينور بصائرنا، وأن يرسخ إيماننا حتى نعلم أنه لا إله إلا الله، وأن تكون هي القاعدة التي ننطلق عليها في كل حياتنا, من منطلق الإيمان الصادق الراسخ بأنه لا إله إلا الله حتى نرفض كل آلهة سواه في داخلنا, وفي خارج شخصياتنا, في واقع الحياة كلها من خلق الله أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
[ الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]